أنشودة وطنية في 17 ديسمبر

إبراهيم علي - 2025-12-17 - 4:04 م

مرآة البحرين: منذ ديسمبر العام 1994 وحتى الآن، مضت ثلاثة عقود، لكن حرارة دماء الشهيدين هاني خميس وهاني الوسطي اللذين سقطا بالرصاص الحي، لا تزال وكأنها بالأمس.

لا صوت هناك في ديسمبر، سوى صوت المتظاهرين يلعلع في سماء الوطن، ويكتب تاريخاً نضّاخاً بقصص البطولات والمآسي والعذابات، قصص أولئك الذين قدّموا لهذا الوطن من أرواحهم ودمائهم وجراحهم وتضحياتهم. أولئك الذين يستحقون الحياة لكنهم قدّموها على مذبح التضحية.

منذ ذلك الحين وديسمبر لم يهدأ، لا تزال رياح ذلك الشتاء البارد تحمل عطر الشهداء حتى اللحظة، كأنّ الدماء على قمصانهم تسيل الآن بين يدي كلّ أجيال الثلاثين عاماً التي مضت، وتذكّرهم بنسائم الكرامة في الزمن الفرعوني.

الذاكرة الوطنية هي الذاكرة الوطنية، كذلك سلاسل القيود على يد العلامة الوقور الجمري في زنزانته الانفرادية، لا يزال صليلها يرنّ على مسامع كلّ الأجيال، والحصارات الجبرية على منطقته بني جمرة، وأكاد أجزم أنهم أحسّوا جميعاً بأوجاع الشبّان الذين عُلِّقوا من أيديهم أو أرجلهم في غرف التعذيب بالقلعة وصرخوا بآهاتهم دون أن يسمعهم أحد، وسالت الدماء من ظهورهم وناموا جياعاً وهم يرتجفون من برودة ديسمبر.
أيّ راحةٍ شعرنا بها منذ ذلك الحين؟ أم هل مرّت الأيام علينا فعلاً؟

كان البعض يحسدنا على سنوات الانفراجة في 2001، كأنّ الشيطان حينها قرّر أن يتوب، كأنّ لحظة الرخاء كانت أكبر منّا، استغربنا تلك اللحظة التي سنكون فيها مثل الشعوب الأخرى، لكن الملك كان أسبق علينا من لحظتنا، عندما قرّر أن يجعل كتاب الأمير لميكافيلي دستوره ويتفنن في ألعاب السياسة!
لم نشعر بالراحة حتى في هذه السنوات، وآلمتنا كثرة الطعنات من الخلف، بدءً من الانقلاب الدستوري في 2002، ومروراً بسنوات تقرير البندر في 2006، ثم اعتقالات 2007.

كنّا نقول أنّ الوطن قد رَوِيَ بالدماء بعد الدماء، وأنّ الجلاد قد مَلَّ هو الآخر من سماع أنين المعذّبين، وسئم من رؤية الأمهات الثكالى ودموع أبناء الشهداء، لكنّنا لم نكن ندري أنّ الطريق لا يزال في بدايته، وأنّ الوقوف عند المنعطف ليس سوى التقاطة نَفَس!

كم منّا تعب في هذا الدرب الطويل؟ هل تريدون أن أذكّركم بقائمة طويلة من أسماء الذين شعروا باليأس؟ التحقوا بصفوف العدو؟ خانوا أخوة الأمس؟ انسحبوا بلا وفاء؟ تبلّدوا ولم يعودوا يشعرون بشيء؟
لن أذكّركم بأحد، فالطريق لا يزال أيضاً في بدايته، وسيظلّ في بدايته ما دامت الأمور في مكانها لم تتغيّر.
نعم في بدايته، لأنّنا خلال سنواتٍ وسنوات، لم نكن ندرك أنّنا نحن الوطن، وأولئك هم أعداءنا الذين لا يتوقفون عن أحقادهم بلا نهاية، وأنّ علينا المقاومة بلا نهايةٍ نحن كذلك.

ها هم ينبزون وطنيتنا حتى اليوم، ولن يتوقفوا عن ذلك إلى الغد، دون أن يشعروا بالعار، دون أن يحسّوا أنّهم أهانوا كرامة هذا الوطن.
أنحنُ نُتّهم في وطنيتنا؟

عندما أشاهد هذا الفيلم السياسي المتواصل، أحنُّ للحظة النهاية التي سنقف فيها بلا قلق، بلا خوف، بلا أجهزة أمنية تلاحقنا، بلا قوانين قمعية تجلد ظهورنا، بلا وجوه كالحة تحكمنا، ونعلن أننا نحن الوطن. نحن الذين قدّمنا التضحيات. نحن الذين سقينا التراب بدمائنا، بعرق جباهنا، بتعبنا الطويل.

نحن الوطن لأنّ الوطن يعرفنا، والأب دائماً يعرف أبنائه من بين حشود الغرباء، يعرفهم بسيماهم التي تشبه ترابه، ويعرف أيضاً أولئك الذين جاؤوا من وراء البحار ويشبهون وطناً آخر.
آباؤنا كانوا يزرعون الأرض، بينما كان آباؤهم يمشون في الناس بالنهب والسلب، ويغتصبون الرعايا ويختطفون الحرائر، هل تتذكّرون؟
أليس هذا هو الفرق بين الوطني وبين غيره؟ بين من يحرث الأرض ومن ينهبها؟

ثم ما بال هؤلاء النهّابة يتجاهلون صوتنا؟ يقتلون أحلامنا؟ يجلبون الغرباء ليحاربونا؟
ما بالهم تفرعنوا وظنّوا أنّ شوكتنا كُسرت؟ وأنّ حبّنا للوطن قد مات؟ وأنّهم هزموا إصرارنا العنيد؟
ما بالهم؟

فليتذكّر هؤلاء تاريخنا، ها نحن اليوم في ديارنا وفي المنافي نكتب قصتنا ونروي تاريخنا لأولادنا ولا نزال على موقفنا، فماذا يأملون بعد ذلك؟
ماذا يأملون ونحن نقاوم النسيان وتعب السنين ويأس الأيام بدماء شهدائنا الذين سقطوا بالأمس؟ فما داموا قد سقطوا فقد سقطوا، ولا حجّة لنا بعد ذلك إذ صرنا أولياء دمائهم فنخونهم ونرجع بخيبتنا وندسّ رؤوسنا في تراب الذلّ، أنفعلها ونحن الذين كنّا رفاقهم؟
شهداؤنا مشاعلُ مقاومة، أهزوجة نزالٍ لا يتوقّف، حرارة في صدور الأحرار لا تخبو.
ما بالهم يحلمون بقتل شهدائنا مرّةً ثانية؟
ما بال هؤلاء الأنذال؟
ما بالهم؟