فندق السعادة وتغييب غرفة الضمير

محمد البناء - 2025-11-28 - 12:01 ص

مرآة البحرين : في عالم يُخضِع فيه الطغاة شعوبهم بالخوف والقهر، تأتي مقالات عن "فندق السعادة" لتبدو كجرعة مخدرة للقارئ، تغطي الواقع بالورود والروائح العطرة، وتُحوّل الدين والثقافة إلى لعبة فردية لا علاقة لها بالمقاومة، ولا بتحرير الإنسان من الأغلال الاجتماعية، ولا بالحقائق السياسية، ولا بمواجهة الظلم، ولا ببناء دولة المواطنة.

بينما يُمارسُ الاستبداد على الأرض، ويموت المواطن في صمت تحت وطأة الفقر والقمع، تُعرض على الناس وصفات للسعادة تجعل الفرد منشغلاً بنفسه، بروحه، جسده، وثقافته، بصوفية الاستبداد وكأن الظلم لا وجود له، وكأن الدين الثوري المقاوم، الذي يُفترض أن يكون سلاحًا للعدل والمقاومة، مجرد أداة لتجميل الذات ونقد الآخرين بطريقة سطحية، وتخدير للواقع.

مقالات صوفية الاستبداد تحوّل الدين الثوري إلى شعار فارغ، يركز على الفردية والروحانية الداخلية، وينسى أن الثورة الحقيقية تبدأ من مواجهة الظلم بكل أنواعه، وأن السعادة كمفهوم لا يمكن فصلها عن الحرية الاجتماعية والسياسية. كل حرف يقرأه القارئ من هذه النصوص يبعده خطوة عن فقه المقاومة، ويزرع لديه وهم أن التوازن الداخلي يكفي لمواجهة الظلم، بينما الواقع يصرخ بالاستبداد في كل زاوية من زوايا بلده.
هذا النوع من الخطاب هو دعاية للنوم الفكري والسياسي والروحي ، يجعل القارئ غافلًا عن مشهد القهر المحيط به، منشغلاً بترتيب غرفه الداخلية وكأن الجوع، الفساد، التعصب، والقمع والاستبداد والطغيان مجرد تفاصيل ثانوية يمكن تجاهلها ونسيانها. وهكذا، تتحول الثقافة والدين إلى قناع مزيف للسعادة، بينما يُدفن فعل الثورة والمقاومة تحت أكوام من النصائح الفردية، الصوفية السلبية! كأنّ الإنسان يُخلق ليعيش سعيدًا في عالم وهمي لا علاقة له بالواقع.

سلسلة مقالات عن "فندق السعادة" تُصور السعادة وكأنها مشروع معماري داخلي يمكن للفرد ترتيبه بنفسه، غرفة غرفة، وكأن العالم من حوله لا وجود له. هناك غرف للروح، الجسد، الحب، المال، الثقافة، والعلاقات الاجتماعية، وكل واحدة منها تقدم وصفة سحرية للسعادة، كما لو أن الفرد وحده مسؤول عن كل شيء. لكن الواقع أبسط وأكثر قسوة: السعادة ليست مجرد ترتيب غرفك، بل هي علاقة بين الفرد والمجتمع، بين الفرد والدولة، بين الحرية والعدالة، بين النفس والعالم.
التحليل النقدي لهذه المقالات يكشف استدعاء مفكرين وفلاسفة كبار، من أفلاطون وسبينوزا إلى كارل يونغ وفرويد، وأبطال الجسد المثالي مثل شوارزنيغر، مارلين مونرو، لتأكيد أن السعادة مرتبطة بالتوازن الشخصي. لكن في الحقيقة، كل هذه المقولات تصبح مجرد مسرحية ثقافية لتجميل الواقع وحرف بوصلة المسؤولية والتكليف الشرعي عن حقيقة وجود الانسان على هذه الأرض ، وكأن فشل المجتمعات والقوانين والأنظمة لا وجود له.

غرفة الروح: التأمل وحده لا يكفي
تركز غرفة الروح على التأمل الداخلي والوعي الذاتي، وتستدعي أسماء مثل باسكال، روسو، تولستوي، أينشتاين، والإمام علي (ع). الفكرة: ابحث عن نفسك وستجد السعادة. لكن لو كانت الروح محاصرة في قفص من القوانين الظالمة، أو مجتمع يكرّس الخوف والتعصب، فما قيمة التأمل؟

في المقابل، مفكرون مثل الإمام الخميني وفضل الله والشهيد الصدر الأول يؤكدون أن الوعي الروحي لا يكتمل إلا بالوعي الاجتماعي والمشاركة في مواجهة الظلم والطغيان. أما من منظور يساري، فقد قال فانون ومارتن لوثر كينغ ومالكوم إكس إن تحرير الذات مرتبط بتحرير المجتمع، وأن السعادة الفردية الفارغة بلا عدالة هي مجرد غرفة بلا جدران.
السخرية هنا أن النصوص توهم القارئ أن روحك يمكن أن تزدهر بينما ينهار العالم من حولك، وكأنك تعيش في حديقة زجاجية بعيدة عن كل شيء.

غرفة الثقافة: معرفة بلا نقد
غرفة الثقافة تركز على القراءة، الكتب، التنوّع الفكري، الترف الثقافي، واستحضار أسماء مثل إريك فروم، إميل سيوران، تشارلز تايلور، وباومان. الفكرة: كن مثقفًا وستعيش سعيدًا. لكنها ثقافة منزوعة الأسنان، تحسن الذات ولا تحرك ساكنًا في مواجهة القهر واغتصاب الحقوق.
هنا يظهر الفرق بين الثقافة التي تبني الفرد فقط، والثقافة التي تبني الوعي الجماعي المقاوم . فانون يرى أن الثقافة يجب أن تكون أداة لتحرير المقهورين، بينما مارتن لوثر كينغ ومالكوم إكس جعلوا الثقافة والمعرفة سلاحًا لمواجهة الظلم العنصري والاجتماعي. التركيز على الفردية في الثقافة يشبه تعليم الطيور الطيران في قفص جميل على الورق، لكنه لا يحررها.

غرفة الحب والعلاقات: الحب الفردي مقابل التضامن
غرفتا الحب والعلاقات الاجتماعية تقدمان وصفات مثالية للعلاقات، مستشهدين بنيتشه، فروم، سارتر، جبران، أرسطو، دوركايم، والإمام علي (ع). الفكرة: ابحث عن شريك مثالي، وأحب بوعي، وستجد السعادة.
لكن الواقع يضحك في وجه هذه الوصفات، فالعلاقات الفردية وحدها لا تصنع مجتمعًا عادلًا أو حياة متوازنة. الإمام الخميني وفضل الله والشهيد مطهري يربطان الحب الحقيقي بالعدالة والحق، ومواجهة الاستبداد بينما يؤكد مارتن لوثر كينغ ومالكوم إكس أن التضامن الاجتماعي والمقاومة جزء لا يتجزأ من أي مفهوم للسعادة. التركيز على الحب الفردي فقط يشبه محاولة ملء دلو بهواء: يبدو ممتلئًا، لكنه فارغ من الجوهر.

غرفة المال والجسد: السعادة ليست فخامة
غرفة المال تعتبر المال وسيلة للسعادة، مستشهداً بسقراط، نيتشه، روسو، ، هوجو. سبينوزا، زولا، وأورويل، وغرفة الجسد تركز على الصحة، مستعينة بأفلاطون، يونغ، فرويد، شوارزنيغر، مارلين مونرو.
التحليل النقدي يكشف أن هذه الغرف توهم القارئ أن المال والجسد هما مفتاح السعادة، بينما يغفل الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
الصحة والرفاهية لا يمكن أن يتحققان إلا في مجتمع يوفر الأمن والعدالة، كما يؤكد فانون والإمام الخميني. تركيز المقالات على الفردية وترك البنية القيمية للأنظمة التي تصيغ وجه الأنظمة وشكلها هنا، يُشبه تعليم شخص على السباحة بينما يغرق في النهر: جميل من بعيد، لكنه عديم الجدوى على الأرض.

العظماء في الفندق: عبقرية بلا سياق
تحلل المقالات حياة نيتشه، شوبنهاور، إدغار آلان بو، داروين، بودا، بودلير، فان جوغ لتوضيح أن الفرد يمكن أن يعيش سعيدًا إذا حافظ على توازن غرفه، لكن التاريخ مليء بأمثلة عباقرة عانوا بسبب هشاشة البيئة الاجتماعية والسياسية. الإنجاز الفردي وحده لا يكفي، والسعادة الحقيقية مرتبطة بالمجتمع العادل ودولة الكرامة، كما أكّد مارتن لوثر كينغ، مالكوم إكس، وفانون.
السخرية هنا أن المقالات تجعل من الإنجاز الفردي و"ترتيب الغرف" سر السعادة، وكأن المجتمع والظلم والتاريخ ودولة الاستبداد لا علاقة لهم بما يحدث للفرد.

غرفة الضمير: الصوت الداخلي والعدالة
بينما تركّز المقالات على الروح والجسد والحب والمال، الثقافة والعلاقات الاجتماعية تغيب غرفة الضمير تمامًا، وكأن المسؤولية الأخلاقية والاجتماعية والسياسية للإنسان لا شأن لها بالسعادة. الضمير هو ما يربط الفرد بالحق والباطل، بالقهر والاستبداد، بالعدل والظلم، هو الغرفة التي تُذكّر الإنسان بأن سعادته الشخصية لا يمكن أن تتحقق على حساب الآخرين، وأن الدين الثوري الحقيقي يرتبط بالوعي بالمجتمع ومواجهة الظلم.
المفكرون الإسلاميون مثل الإمام الخميني وفضل الله ومطهري، وشريعتي أكّدوا أن الضمير هو صمام الأمان للروح، وأن التراجع عن مواجهة الظلم أو السكوت عن القهر يُعد خيانة للفرد والمجتمع. ومن منظور يساري، يرى فرانتز فانون ومارتن لوثر كينغ ومالكوم إكس أن الضمير الاجتماعي والسياسي هو ما يحرر المستضعفين، ويحول المعرفة والثقافة إلى قوة للتغيير، لا مجرد ترف فكري أو نصائح فردية منمقة للسعادة.
غياب هذه الغرفة في فندق السعادة يشبه بناء فندق فاخر بلا أساس، حيث يعيش النزيل في وعي نائم، منشغلًا بالأنسجة والديكور، ومتجاهلًا الصراعات التي تحيط به. إن السعادة بدون ضمير ليست سوى وهم جميل، يخدر العقل ويبعد الإنسان عن دوره في مواجهة الظلم والاستبداد.

هذه المقالات تصنع سعادة ورقية: فندق متكامل على الورق، غرف مرتبة، أسماء مفكرين عظام، نصائح دقيقة، لكن الواقع خارج الفندق فوضوي، مظلم، مليء بالظلم والقهر والتعصب والقمع والاستبداد . التركيز على الفردية والتوازن الداخلي يُحوّل القارئ إلى ناظر من بعيد، يغفل أن الحياة الحقيقية مرتبطة بالمجتمع، بالحرية، بالعدالة وبحقوق الانسان

الدروس النقدية واضحة:
-السعادة الحقيقية لا تبنى على الفردية وحدها، بل على الحرية والعدالة والمشاركة الجماعية

- كل غرفة من الغرف الست يجب أن تُفهم في سياق المجتمع والوعي الجماعي، لا كمشروع داخلي فقط.

- الثقافة، الحب، المال، والجسد وللعلاقات الاجتماعية بلا وعي اجتماعي حقيقي هي مجرد ديكور فندق ينهار عند أول صدمة.

عندما تقرأ بتعمق مقالات "فندق السعادة"، تشعر وكأن صاحبها يعمل في قسم العلاقات العامة للعالم، مهمته الأساسية طمأنة البشر بأن كل شيء بخير، فقط اهتم بنفسك، ودع المجتمع لحاله، تجاهل الظلم، ولا تفتح نافذة "السياسة" حتى لا يدخل منها هواء الحقيقة.
الكاتب لا يقدم فكرًا بقدر ما يقدم جلسة "سبا روحية"، عطور فلسفية (موسيقى نفسية) وتأملات فضفاضة، ليخرج القارئ معتقدًا أنه امتلك سر السعادة، بينما كل ما حصل عليه هو منشفة دافئة على عقل بارد.
هو ليس فيلسوفًا، وليس عالم اجتماع، وليس ناقدًا للنظام السياسي أو للبنى الظالمة، بل يمكن وصفه بأنه كاتب يهوى اقتباس الفلاسفة كما يهوى البعض تجميع الطوابع، يجمع جبران مع فرويد، ويونغ مع أفلاطون، ونيتشه مع القديس أوغسطين، ثم يخلط الجميع في شوربة فكرية ساخنة، يقدمها للقارئ على أنها "وصفة السعادة".

لكن المشكلة ليست في الاقتباسات.
المشكلة في الرسالة الزاحفة بين السطور: السعادة مسؤوليتك وحدك، ومشاكلك نفسية لا سياسية، والواقع الخارجي ليس له علاقة بشقائك، دع الدولة وشأنها، وقم بضبط غرفك الست بنفسك.

يبدو أن "السعادة" في هذه المقالات ليست أكثر من بودرة مخدّر تُرشّ على عيون الناس حتى لا يروا شيئًا. يريدونك أن تعتقد أن الحل لكل مشاكلك يبدأ من "غرفة الروح" ويمر عبر "غرفة الحب" وينتهي في "غرفة الجسد"، وكأنك ساكن في فندق خمس نجوم وليس مواطنًا في بلد يقف فيه الظلم عند كل زاوية مثل موظف استقبال مبتسم.

يقولون لك:
"اعتنِ بروحك تجاهل العالم الخارجي"
"كوّن شبكة علاقات صحية وانسَ الجوع والظلم"
"اهتم بجسدك فالرياضة علاج للبطالة وللقمع السياسي معًا"

وتقرأ النصوص فتشعر أنك في كورس "يوغا سياسية"
تمدد، تنفس، انسَ ..
اسمح للظلم بأن يمر بجانبك دون أن يتوتر ضغط دمك ..
ركز على داخلك فالخارج مجرد مؤامرة من عقلك المتشائم!

يُحدثونك عن السعادة وكأنها ديكور داخلي لا علاقة له بالواقع، وكأن الضمير مجرد مصباح نيون يمكن إطفاؤه بلمسة. لا تقترب من السياسة، لا تلمس العدالة، لا تفكر في الحقوق، فقط اغسل عقلك بماء الورد واجلس في غرفة الحب واشكر الله أنك لست في غرفة التحقيق.

السعادة هنا ليست فلسفة بل عازل صوت يمنعك من سماع أنين الناس وظلم الطغاة، سعادة من نوع يطلب منك أن تصلي ركعتي شكر على نعمة الصمت، وأن تعتبر كل ظلم "تحديًا نفسياً" يمكن حله بالتأمل والتنفس العميق.

وباختصار ..
إنها سعادة تنقلك من خانة "إنسان" إلى خانة "نزيل"، نزيل في فندق نوافذه مغلقة وصوته مكتوم وخروجه ممنوع.