قراءة في حوار (عاصفة فوق مياه الخليج)

شهادة على الوعي ومعركة الذاكرة في تاريخ البحرين الحديث

أحمد رضي - 2025-11-25 - 1:21 م

مرآة البحرين : لم يكن الحوار الذي استضافه بودكاست «أختام» مع الباحث والكاتب د. راشد الراشد مجرد استرجاع للذكريات، بل وثيقة بصرية متكاملة تعيد تركيب المشهد السياسي والاجتماعي والفكري للبحرين في مراحل مفصلية من تاريخها الحديث. ظهر الراشد هنا لا كشاهد فحسب، بل كفاعل أسهم في تشكيل وعي جيل كامل، مقدمًا قراءة تاريخية دقيقة تمزج بين المعلومة والتحليل والبعد الإنساني. فالحوار، بما احتواه من سرد وشهادات وتحليل، لم يكن مجرد استدعاء للماضي، بل مواجهة مع التاريخ؛ مواجهة لا تهدف لتبرير الوقائع، بل لإنقاذ ما تبقى من الذاكرة قبل أن تبتلعها السرديات الرسمية.

يمتلك الراشد قدرة فريدة على الربط بين ثلاثة مسارات مترابطة: تحوّل الوعي الديني والسياسي، ومسار الدولة والأمن، والتجربة الإنسانية في أعمق مستوياتها. وهي المحاور ذاتها التي تنبني عليها ثلاثيته التوثيقية: عاصفة فوق مياه الخليج، جزيرة السجون، وحياة امرأة بحرانية. وهي أعمال تتجاوز السرد لتصبح معركة مفتوحة ضد النسيان والتبسيط التاريخي. ومن خلالها يقدم الراشد مشروعًا متماسكًا لإعادة بناء المشهد التاريخي من الداخل: من التجربة والوجع والمقاومة والانكسارات، وكل ما حاولت الرواية السلطوية إخفاءه أو طمسه.

 

الجذور الأولى للوعي: البحث عن مشروع النهضة

يعود الراشد إلى ستينيات قرية السنابس، حيث كان التدين حاضرًا في كل تفاصيل الحياة اليومية، لكنه كان «تديّنًا قشريًا»؛ طقوسًا بلا مضمون، وشعائر تتكرر دون أن تُسائل الواقع أو الإنسان أو الدولة. غير أن هذا الفراغ خلق مساحة للبحث عن معنى أعمق. فصعود التيارات القومية (مثل حركة القوميين العرب) والتيارات اليسارية (مثل الجبهة الشعبية لتحرير البحرين) فتح أفقًا أمام جيل شاب يبحث عن إسلام يحاكي الحرية والعدالة، لا مجرد ممارسات اجتماعية. وظل سؤال ضاغط ينتظر الإجابة: هل يمكن للدين أن يتحول من ممارسة شعائرية إلى مشروع حضاري اجتماعي وسياسي؟

ومع انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 بقيادة الإمام الخميني، وجد ذلك الجيل نموذجًا حيًا لإسلام قادر على تقديم مشروع اجتماعي وسياسي، لا مجرد طقوس جامدة. وفي هذا المناخ جاءت هجرة الراشد، كرحلة بحث عن فضاء يسمح بصياغة وعي جديد وتحرير الأسئلة.

 

السيد هادي المدرسي... مهندس الوعي الرسالي

يربط الراشد التحوّل الفكري الأبرز في الساحة البحرينية بوصول آية الله السيد هادي المدرسي عام 1969، الذي يصفه بـ«مهندس الوعي الرسالي». لم يكن حضوره مجرد خطاب جديد، بل مشروعًا منظّمًا أعاد تشكيل العمل الديني من الداخل. فأسّس «الصندوق الحسيني الاجتماعي»، ونشّط العمل الشبابي والثقافي، وخلق بيئة تعليمية وتربوية جعلت الدين تجربة قابلة للحركة والنمو، ما أسّس لنواة تيار رسالي طويل النفس ظل فاعلًا في المجتمع البحريني لعقود لاحقة.

ديسمبر 1981... حين تتحوّل الرواية إلى معركة

تظل أحداث ديسمبر 1981، التي اتُّهمت فيها «الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين» بمحاولة انقلاب، واحدة من أكثر اللحظات حساسية في تاريخ البحرين الحديث. فالرواية الرسمية - بقيادة رئيس جهاز أمن الدولة آنذاك إيان هندرسون - قدّمت الحدث بوصفه تهديدًا مباشرًا لأمن الدولة، فيما يرى الراشد أن ما جرى كان اختطافًا للتاريخ وإقصاءً لأي قراءة أخرى تُعيد المشهد إلى سياقه السياسي الأوسع.

في الثانية والعشرين من عمره كتب الراشد كتابه عاصفة فوق مياه الخليج كوثيقة مضادّة للرواية الرسمية، مستندًا إلى شهادات المعتقلين، وتقارير الصحافة الدولية، وتصريحات مسؤولين كبار بينهم وزير الدفاع الأميركي الأسبق كاسبار واينبرغر. ويبرز الكتاب، كما يرى الراشد، بعدًا إنسانيًا وسياسيًا: ليس فقط توثيق الأحداث، بل الكشف عن الكلفة الحقيقية للنضال، وعلاقة الفرد بالدولة، وأثر السياسات الأمنية على البنية الاجتماعية. ويؤكد الراشد أن أحداث 1981 لا يمكن فصلها عن الأزمة الدستورية الكبرى التي سبقتها منذ حلّ المجلس الوطني عام 1975 وتعليق العمل بدستور 1973، معتبرًا أن الصراع الحقيقي كان بين نظامٍ يسعى لاحتكار السلطة ومجتمعٍ يطالب بحقوقه الأساسية.

كما يربط الراشد تلك الأحداث بالتحوّل الإقليمي الأوسع الذي أعاد تشكيل مجلس التعاون الخليجي، إذ يرى أن تلك الأحداث لم تكن شأنًا بحرينيًا خالصًا، بل نقطة انعطاف استراتيجية نقلت المجلس من إطار اقتصادي تعاوني إلى تحالف أمني مُشدّد باتت وظيفته الأساسية ضبط الداخل وحماية الأنظمة أكثر من تعزيز التكامل والتنمية. ولذلك لم يكن مستغربًا أن يصف المناضل اليساري عبدالنبي العكري كتاب عاصفة فوق مياه الخليج بأنه «أفضل وثيقة لتاريخ البحرين الحديث»؛ لا لجرأته فحسب، بل لأنه أعاد للتاريخ تعدديته، وفتح ثغرة في جدار الرواية الرسمية التي أُريد لها أن تكون الصوت الوحيد.

 

جزيرة السجون... القمع كمنظومة

في جزيرة السجون ينقل الراشد القارئ إلى أعماق التجربة الأكثر قسوة: قانون أمن الدولة لعام 1974، آلاف المعتقلين، 73 حالة تصفية، وخمسة شهداء قضَوا تحت التعذيب. هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات، بل شواهد حيّة على حجم القمع الذي غطّى كل مناحي الحياة. كما يستعيد الراشد تجربته مع «الهوية الممزقة»: اضطراره لاستخدام اسم مستعار «حمادة» للنجاة، ومعركته لإثبات نسبه الحقيقي «الراشد» بعد أن حاول النظام محوه. وهنا يصبح السؤال إنسانيًا بامتياز: ماذا يبقى من الإنسان حين يُنتزع اسمه وجذوره؟

 

حياة امرأة بحرانية... رفيقة المنفى

في كتابه الثالث يقدم الراشد شهادة استثنائية عن دور المرأة في صياغة وعي المجتمع. زوجته الراحلة، أم أحمد، لم تكن مجرد رفيقة منفى، بل ركيزة أساسية ساهمت في بناء البيت والفكرة معًا، وواصلت دراستها الحوزوية وأدوارها التعليمية والخطابية في بيئة صعبة. ومن خلال هذه الشهادة يعيد الراشد الاعتبار لدور المرأة بوصفها عنصرًا أصيلًا في حركة المجتمع، مؤكدًا أن الوطن لا يكتمل إلا بوجودها الفاعل.

ما لم يُقَل... ثغرات بحاجة إلى معالجة
يقف الراشد في الحوار عند ملفات جوهرية لم تُستكمل بعد، وتمنّيت لو تناولها، وهي ملفات لا يمكن تجاوزها في قراءة التاريخ الوطني. فعلى الرغم من غنى الحوار، إلا أنه لم يتطرق إلى محطات مفصلية مثل تجربة 1965 التي دشّنت الوعي السياسي الحديث، ومأزق 1975 وما حمله من دلالات دستورية أعادت تشكيل علاقة المواطن بالدولة، إضافة إلى انتفاضة التسعينات بوصفها محطة مركزية لا تزال آثارها حيّة حتى اليوم. كما يبقى سؤال «عقل الدولة» وتحوّلاته غائبًا بدرجة تُربك فهم البنية العميقة للصراع.
وأخيرًا، غابت القراءة المستقبلية: ماذا تعني هذه الذاكرة لجيلٍ رقمي سريع التفتّت؟ هل ما زالت أدوات النضال التقليدية صالحة لبناء وعي جديد؟ أم أن معركة الوعي باتت تتطلّب أدوات تعبير وتنظيم مختلفة جذريًا عن أدوات الأمس؟

خاتمة: الذاكرة كفعل مقاومة
لا يخوض د. راشد الراشد معركة ضد الرواية الرسمية فحسب، بل يدافع عن حق الذاكرة في أن تكون متعددة الأصوات؛ مرآة حيّة للحقائق، لا صفحة واحدة تُقرأ كما ترغب السلطة. فالذاكرة، كما يقدمها عبر كتبه وحواره، ليست مجرد تسجيل للماضي، بل مشروع مقاومة للطمس والنسيان، ومحاولة لإنقاذ الحقيقة من ذوبانها في الخطاب الرسمي.
إن الصراع في البحرين لم يكن يومًا صراعًا عسكريًا أو سياسيًا مجردًا؛ بل كان ولا يزال صراعًا على الوعي: بين سردية رسمية تسعى لاحتكار الحكاية، وسرديات شعبية تحاول استعادة ما ضاع من القصة. ومن هنا، لا يصبح الحوار استعادة للماضي فحسب، بل دعوة للجيل الجديد لتملّك تاريخه بعين ناقدة. فالصراع الحقيقي هو صراع الوعي، ومعركته ليست حدثًا وقع وانتهى، بل عملية بناء مستمرة لوطن تُروى حكايته كاملة... لا نصفها فقط.

شاهد الحوار كاملًا عبر الرابط:
https://youtu.be/uiDc5NTPhD4?si=fgvXjzpTZxDzLmiU