لماذا قطن البحارنة المحمرة؟
2025-11-22 - 10:30 م
مرآة البحرين : يأخذنا كتاب بحارنة البنادر -الذي صدر مؤخرا للدكتور علي الديري ودعاء إبراهيم في رحلة إنسانية وتاريخية عميقة إلى عالم بحارنة الساحل (البنادر)، وخاصة مجتمع المحمّرة والمناطق الساحلية الممتدة بين الخليج والأنهار والبوادي، ويجيب عن سؤال مهم وهو: لماذا قطن البحارنة المحمرة؟
يقوم العمل على المزج بين السرد الشخصي، الذاكرة الجمعية، التاريخ، والأنثروبولوجيا، ليعيد رسم ملامح جماعة بحرانية ظلّت بين الترحال والاستقرار، بين البحر والتراب، وبين الانتماءين: البحرين وإيران، أو كما يسمّيها المؤلف «الهويّة المزدوجة المشتّتة».
يبدأ الكتاب من لحظة سؤال وجودي:
«لماذا نذهب إلى المحمرة؟ وما الذي يربطنا بها رغم فواصل التاريخ والسياسة؟» وهو سؤال يفتح الباب لبحث علاقة البحارنة بهذا الامتداد الساحلي، وكيف تكوّنت عبر القرون هويّة ذات طبقات: عربية، شيعية، بحرانية، ومهاجرة في الوقت نفسه.
تتميّز مجتمعات البنادر بخصوصية ثقافية واضحة: لغة يومية بحرانية، طباع اجتماعية متقاربة مع بحارنة الجزيرة، أنماط عيش تعتمد على الصيد، والغوص، والزراعة النهرية، إضافة إلى شبكات الولاء الديني التي تربطهم بالمراقد والنجف وكربلاء. هذه الخصوصية جعلت البحارنة في تلك المناطق شعبًا حيًّا للذاكرة، رغم التبدّل الجغرافي والسياسي الكبير الذي ضرب المنطقة بعد سقوط الدول القديمة وتغيّر الحدود.
يعتمد المؤلف على الذكريات العائلية، خصوصًا حكايات الأمهات والجدّات، ليعيد بناء صورة مجتمع كامل: وصف البيوت الطينية، الأسواق الصغيرة، المقاهي، مواسم العزاء، وجغرافيا المكان المتحوّلة بين الماء والطين. وهو يصف المحمرة كمدينة «قوس بين نهرَي الهوى والانتماء» حيث اختلطت فيها طوائف وشعوب، لكنها بقيت مركزًا لبحارنة الساحل، ملاذًا ومرجعًا وإحساسًا بالأصل.
يستعرض الكتاب سلسلة من القصص الشخصية المؤثرة:
حكايات المهاجرين الذين عبروا البحر قادمين من البحرين واستقروا على ضفاف الكارون.
قصة النساء اللواتي حفظن الذاكرة الشفوية، خاصة «الملايات» اللاتي نشرن القصص الحسينية والمراثي.
سير بعض الأعلام والفقهاء والرواة الذين تركوا بصمتهم في تلك البيئة، من بينهم عوائل علمية وعرفانية استقرت في المحمرة وخرّجت خطباء وكتّابًا ورجال دين بارزين.
إحدى أهم زوايا الكتاب هي تحليل معنى الهوية البحرانية عند من عاشوا في البنادر. فالهويّة هنا ليست مكانًا جغرافيًا فحسب، بل إحساسًا بالتاريخ واللغة والعاطفة الدينية. ومع ذلك، يواجه هؤلاء البحارنة سؤالاً صعبًا: هل نحن من البحرين أم من المحمرة؟
الكاتب يبيّن أنّ الهوية ليست اختيارًا ثنائيًا، بل طبقة مركّبة من الانتماءات المتداخلة، وأنّ البحرين تسكن في الوجدان حتى حين يعيش الإنسان بعيدًا عنها، وأن المحمّرة بدورها أصبحت وطناً بالمعايشة والمأساة والشراكة.
كما يكشف الكتاب جانبًا مهمًا من التاريخ السياسي المغيّب:
- العلاقة المتوتّرة بين البحارنة والسلطات المختلفة التي حكمت المنطقة.
- عمليات الهجرة القسرية أو الطوعية.
- تغيّر الوضع الاقتصادي والاجتماعي نتيجة الحروب والتحولات الكبرى.
- محاولة الأهالي الحفاظ على تراثهم رغم تآكل المكان، كما فعل أصحاب الدكاكين والأسواق القديمة الذين ظلّت محلاتهم «نقاط ذاكرة» حيّة وسط الخراب.
ويسلّط الكتاب الضوء على دور الطقوس الدينية في بناء التضامن الاجتماعي، خصوصًا موسم عاشوراء وزيارات كربلاء والنجف، حيث يشعر البحارنة أنّهم يعودون إلى مركز هوّيتهم الروحية. هذه الطقوس شكّلت جسرًا بين الضفتين: ضفة النخل في المحمرة، وضفة اللؤلؤ في البحرين.
أهم ما يقدمه الكتاب هو أنه لا يكتب التاريخ بمعناه الأكاديمي البارد، بل يكتبه كـ تجربة شعورية، كندبة حب وحنين، وكبحث عن معنى «الأصل» في زمن تلاشت فيه الحدود القديمة، وتغيّرت الأماكن، لكن بقيت الذاكرة ثابتة. إنه مشروع لاستعادة «الإنسان البحراني» في صورته الشعبية الأصيلة، بعيدًا عن التزييف والتهميش، معتمدًا على الوثائق والسير والروايات الشفوية والأحداث المسجّلة عبر العقود.
في النهاية، يقدّم المؤلف صورة واسعة لمجتمع عاش بين البحر والنهر، بين الوطن والمنفى، وبين الانتماءين، ويقول إنّ بحارنة البنادر ليسوا هامشًا منسيًا، بل صفحة حيّة من تاريخ الخليج والهجرة والهوية، وإنّ فهم هذه الجماعة هو فهم لجزء أصيل من روح البحرين.
- 2025-11-21كيف يبعد نظام آل خليفة الناس عن السياسة؟ قراءة معمّقة
- 2025-11-17البحرين: لماذا تسجن من يتكلّم في الداخل وتطارد من يتكلّم في الخارج؟
- 2025-11-17تسامح الدولة البحرينية.. شعارٌ لتجميل القمع
- 2025-11-15توقيفات بالجملة بسبب تشييع.. عقيدة أمنية متحجّرة
- 2025-11-14يا وزارة التنمية .. هل المطلوب إفراغ النشاط الأهلي والمدني من مضمونه؟