كيف يبعد نظام آل خليفة الناس عن السياسة؟ قراءة معمّقة

2025-11-21 - 9:58 م

مرآة البحرين : في البحرين، لم يكن ابتعاد الناس عن السياسة حدثًا عابرًا أو ظاهرة اجتماعية طبيعية يمكن تفسيرها بضعف الاهتمام العام. بل هو نتيجة بنية كاملة صُممت تدريجيًا لإعادة تشكيل علاقة المواطن بالدولة، وإضعاف الحافز للمشاركة، وتحويل العمل السياسي من حق أصيل إلى منطقة رمادية مثقلة بالخوف والتحذيرات.

ومن أجل فهم هذا المشهد، لا بد من تفكيك الأدوات التي يستخدمها نظام آل خليفة للدفع بالمجتمع بعيدًا عن السياسة، حتى يبدو الصمت خيارًا منطقيًا، والانسحاب تصرفًا "حكيمًا".

أول هذه الأدوات هي صناعة الانشغال المعيشي. فحين يعيش المواطن تحت ضغط ارتفاع كلفة السكن، وتقلّب سوق العمل، وتدني الرواتب أمام الغلاء، يتراجع اهتمامه بالشأن العام، وينشغل في محاولة الحفاظ على حدٍّ معقول من الاستقرار الشخصي. هذه الحالة ليست عفوية؛ بل هي نتاج سياسات اقتصادية تجعل المواطن دائمًا على هامش الطمأنينة، ما يدفعه للابتعاد عن أي خطوة قد تهدد مصدر رزقه أو مستقبل عائلته. ومع الوقت، يصبح الاقتصاد سلاحًا صامتًا لإعادة تشكيل السلوك السياسي.

إلى جانب ذلك، يجري إعادة تعريف السياسة نفسها. فبدل أن تكون مشاركة، ومساءلة، وحقًا وطنيًا، تصبح في الخطاب الرسمي مرادفًا للفوضى أو الارتباط بالخارج أو تعطيل الدولة. بهذه الطريقة، يتحول النشاط السياسي من مجال مشروع إلى مجال محفوف بالشك، وتصبح مشاركة المواطن مشروطة بحسابات الخوف والاتهام، فيختار كثيرون طريق الصمت لتجنب الوصمة.

ويمتد هذا المسار إلى ضخ ترفيه واسع يغطي المجال العام. فالمهرجانات والفعاليات والاحتفالات تُستخدم لخلق حالة دائمة من الانشغال الجماعي الذي يملأ الوقت، ويجعل النقاش السياسي يبدو نشازًا في وسط عالم من الأنشطة السطحية الممتعة. ليس الهدف قتل الفرح، بل تحويله إلى ضوضاء تغطي الأسئلة الجادة حول الحقوق والسلطة والعدالة.

ثم يأتي دور شيطنة المعارضين. فالمطالب بالإصلاح لا يُناقش، بل يُحاصر باتهامات جاهزة: مرة بأنه يهدد الأمن، ومرة بأنه يخدم أجندات غير وطنية، ومرة بأنه يسعى لإسقاط الدولة. هذه العملية تصنع حاجزًا نفسيًا واجتماعيًا يجعل المواطن العادي يخاف الاقتراب من السياسة حتى لو كان مهتمًا بها. فالخوف من فقدان الوظيفة، أو التعرض للملاحقة، أو المساس بالسمعة، يصبح جزءًا من الحياة اليومية.

ويُضاف إلى ذلك الإعلام الرسمي والموجّه الذي يعيد تدوير رواية واحدة: الدولة على صواب، والمعارضة على خطأ، وكل أزمة سببها المواطن وليس النظام. هذا الإعلام لا ينقل فقط ما تريد السلطة قوله، بل يصنع بيئة معرفية تجعل التفكير النقدي صعبًا، وتشوه معنى المشاركة السياسية.

ولكي لا يتراكم الاحتقان، يُفتح المجال أمام مساحات تنفيس غير مؤثرة. يسمح النظام بنقد يومي في مواقع التواصل، أو شكاوى عن الخدمات، أو تذمّر من قرارات بسيطة، لكنه يمنع أي نقاش متصل بمصادر القرار أو توزيع الصلاحيات أو الرقابة الشعبية. فتبدو مساحة الحرية واسعة على السطح، لكنها بلا قدرة على توليد تغيير فعلي.

وأخيرًا، تُزرع حالة العجز السياسي في الوعي العام. الرسالة المستمرة هي: "لن يتغير شيء"، "السياسة مضيعة للوقت"، "الأفضل الاهتمام بالنفس والأسرة". ومع مرور السنين، يصبح هذا الإحباط ثقافة، ويصبح الصمت طبيعة، وتختفي فكرة أن السياسة حق يمارسه الشعب لا امتياز تمنحه السلطة.

بهذه الشبكة المحكمة-الاقتصاد، الإعلام، الترفيه، الشيطنة، الخوف، والتنفيس-ينجح نظام آل خليفة في إعادة تشكيل المجتمع بحيث يبدو الابتعاد عن السياسة خيارًا ذاتيًا، بينما هو في الحقيقة نتاج هندسة مدروسة.

ولكن هل تتفرج على كل ذلك .. دون مقاومة؟