الملك يشيد بالصحافة التي لا تشيد إلا به!
2025-11-10 - 12:18 م
مرآة البحرين : في قصر الصافرية، حيث تُدار الروايات وتُغلف الحقيقة بورق المديح، خرج الملك متحدثاً عن "الصحافة الوطنية" بوصفها شريكاً فاعلاً في "مسيرة التنمية المستدامة". مشهدٌ مألوف تتراجع فيه الحقيقة إلى الخلف، لتتقدم العبارات المكرورة مثل "الرسالة الوطنية" و"الدور الريادي". لكن بين الكلمات المنمقة والواقع المتآكل مسافةٌ لا يمكن ردمها بخطابٍ واحد، ولا حتى بقانون كامل مكرّس للضبط والسيطرة.
في البحرين، حين تتحدث السلطة عن "الصحافة الوطنية"، فإنها تعني الصحافة التي لا تطرح سؤالاً ولا تشكك في تصريحٍ رسمي. أما الصحافة الحقيقية التي تُمارس النقد وتكشف العيوب، فقد صُنفت سنوات طويلة تحت بند "المساس بالأمن العام". كل من حاول كتابة ما يشبه الحقيقة إما فقد وظيفته، أو حُظر قلمه، أو اضطر للمنفى، ومع ذلك تستمر البيانات الرسمية في التغني بـ"عوائق التنمية" دون أن تجرؤ على تسمية من يضع تلك العوائق.
جاء الملك في لقائه مع جمعية الصحفيين ليُشيد بـ"مكانة الصحافة البحرينية العريقة"، لكن العراقة الحقيقية لهذه المهنة تتنفس اليوم في المنفى، بين من يكتبون من الخارج ويحلمون ببلدٍ لا يُحاكم الكلمة، فالصحافة البحرينية التي كانت يوماً تُعنى بالتحقيقات الجريئة والمساءلة الحقيقية تحوّلت إلى جهاز لاستنساخ بيانات الوزارات، فيما الكتّاب الذين تمسكوا بحق النقد إما غابوا قسراً أو صمتوا جبراً.
أما قانون "الصحافة والإعلام الإلكتروني" الذي احتفى به اللقاء باعتباره "منعطفاً تاريخياً"، فهو في نظر الصحفيين المستقلين منعطفٌ نحو مزيد من التضييق. العبارات الفضفاضة في نصوصه، مثل "المساس بالمصلحة الوطنية"، تعيد صياغة القيود القديمة بلباسٍ قانوني. وبذلك، يصبح القانون الجديد أشبه بسور إلكتروني إضافي بين المواطن والمعلومة، وبين الصحافة ودورها الطبيعي كسلطة رابعة. فباسم "التنظيم" تُعاقب المنصات، وباسم "التنمية" يُقيد الرأي، وباسم "الهوية" تُصادَر التعددية.
المفارقة الساخرة أن جمعية الصحفيين التي يفترض أن تدافع عن حرية أعضائها هي ذاتها التي اصطفّت لتقديم الشكر على هذا المنح الدستوري المقيد، فالذين رفعوا الامتنان لا يتحدثون عن زملائهم المفصولين أو المحكومين أو الممنوعين من الكتابة. يبدو أن الجمعية، في عهدها الجديد اختارت أن تبدأ من نقطة الصمت، حيث يغدو الشكر بديلاً عن المطالبة، والولاء بديلاً عن الشرف المهني.
تحدث الملك عن "ترسيخ الهوية البحرينية الأصيلة"، وكأن هذه الهوية لم تُختزل هي الأخرى في الولاء السياسي والإعلامي، فالصحافة التي لا تعكس وجع الناس، ولا تجرؤ على تشريح الفساد الإداري والاقتصادي، لا يمكن أن تكون هوية بل أداة تجميل. "الهوية" التي يُراد لوسائل الإعلام أن ترسخها هي هوية الخضوع، التي تقيس الوطنية بمدى قدرتك على ابتلاع الصمت وصياغته شعراً تمجيدياً!
وإذا كانت الصحافة "شريكاً في التنمية" كما يقول الخطاب الملكي، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: أي تنمية هذه التي لا تتحمل سؤالاً واحداً عن العدالة الاجتماعية، أو عن أموال المتنفذين، أو عن القوانين التي أرهقت المواطنين؟ التنمية التي تُصوّرها الصحافة الرسمية يومياً تشبه الإعلانات التجارية: ألوان زاهية، وابتساماتٍ معدّة مسبقاً، واقتصاد يسير بخطى ثابتة فوق أكتاف من لا صوت لهم.
في البحرين اليوم، أزمة الصحافة ليست فقط في المنع أو الرقابة، بل في غياب الإيمان الحر بأن الصحافة فعل مواطنة. الصحفي الذي يخاف من السلطة يفقد بوصلة المهنة، والصحافة التي ترضى بأن تكون تابعة تنسى أنها بُنيت أساساً لتراقب وتفضح وتحاسب. ومن هنا يصبح خطاب الملك ليس إشادة بل إعلاناً واضحاً عن نهاية مرحلة كاملة من وهم الحرية الإعلامية.
لكن مع ذلك، ما زالت هناك صحافة حية، خارج حدود القصر وخلف أسوار الصمت. هناك من يكتبون بأسماء مستعارة، ومن يسجلون الانتهاكات، ومن يجعلون من المنفى منبراً. هؤلاء لا ينتظرون تصديق الملك على قوانين جديدة، لأنهم يعرفون أن الكلمة الحرة لا يُصدق عليها أحد إلا التاريخ.
إن الصحافة البحرينية التي يتغنى بها الخطاب الرسمي ليست شريكاً في التنمية كما يُقال، بل شريكٌ في تبرير الغياب، في صناعة الصمت، وفي بيع الأوهام بلغةٍ وطنية منمقة. أما الصحافة الحقيقية، فهي تلك التي ما زالت تؤمن أن الوطن لا يُبنى بالتصفيق، بل بالحقيقة، مهما كان ثمنها.
- 2025-11-09فيلم بحارنة البنادر: يروي معاناة المُهجّرين في المحمرة
- 2025-11-07فيديوهات التطبيع لا تصنع سلامًا: البحرينيون لا يرحّبون بـ"الاسرائيليات" بينهم
- 2025-11-06لماذا لا يمكن للبحرينيين أن يصدقوا الرواية الرسمية في قضية مقتل شهيد لقمة العيش عبدالله؟
- 2025-11-04كيف يتمّ صناعة الطبالين للنظام في البحرين؟
- 2025-11-02بيانات التوظيف الحكومية .. هل تصمد أمام الواقع ..؟