ما لم يقله الرميحي: قراءة نقدية في خطاب الأمن الخليجي
أحمد رضي - 2025-10-31 - 4:43 م
مرآة البحرين: في محاضرته الأخيرة بعنوان «أمن الخليج في عالم متغيّر»، قدّم المفكّر والأكاديمي الكويتي الدكتور محمد غانم الرميحي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة الكويت، رؤية بدت شاملة ومتوازنة لتحديات الأمن الإقليمي، مستندًا إلى معادلة «الردع بدل الصدام» والدعوة إلى بناء منظومة خليجية متماسكة للأمن والتنمية، وذلك ضمن برنامج نادي الخريجين الثقافي لعامي 2025-2026.
الرميحي، الذي راكم تجربة فكرية وإعلامية واسعة، أصدر عددًا من المؤلفات أبرزها أطروحته للدكتوراه «قضايا التغيير السياسي والاجتماعي في البحرين: 1920-1970» (جامعة درهام البريطانية، 1973)، واشتهر بكتاباته ومقالاته المؤثرة، خصوصًا خلال سبعة عشر عامًا من رئاسته لمجلة العربي الكويتية. كما أصدر أثناء الغزو العراقي للكويت جريدة «صوت الكويت» التي مثلت لسان حال المقاومة.
ورغم هذا الرصيد الفكري والإعلامي، بدا خطابه الأخير أقرب إلى صياغة رسمية مكرّرة منه إلى قراءة نقدية حرّة؛ إذ تبنّى خطاب الدولة لا الباحث، وقدّم الأمن في قالب فوقيٍّ تجريدي يتجاهل جذوره السياسية والاجتماعية، محققًا بذلك خطابًا مثاليًا عامًّا غاب عنه التنفيذ الواقعي والأدوات المؤسسية، متجنبًا الخوض في الأسئلة الجوهرية المرتبطة بالإصلاح السياسي والحقوقي، وهما الشرطان الأساسيان لأي استقرار حقيقي في المنطقة.
1. غياب التنفيذ والبعد القانوني
دعا الرميحي إلى إنشاء مجلس تنفيذي خليجي، ومحكمة لتسوية المنازعات، وسوق موحّدة، وكأنها قرارات قابلة للتنفيذ بمجرد الإرادة السياسية، متجاهلًا العقبات البنيوية داخل المنظومة الخليجية. بعد أربعة عقود من تجربة مجلس التعاون، يتضح أن المشكلة ليست في نقص الرؤى، بل في غياب الالتزام المؤسسي والتنفيذي القادر على تحويل التوصيات إلى التزامات ملزمة. مشاريع توحيد العملة والسوق الخليجية المشتركة ما زالت مؤجلة بسبب تضارب المصالح الوطنية والخشية من فقدان السيادة الاقتصادية.
والأهم إشكالية السيادة لم يتطرق إليها الرميحي: إلى أي مدى يمكن للدول الخليجية التنازل عن جزء من سلطتها لصالح كيان تكاملي فعلي؟ أي حديث عن «منظومة ردع جماعية» سيظل شعارًا إنشائيًا ما لم يُقدّم إطار مؤسسي واضح وإرادة قانونية مُلزمة تجيب عن هذا السؤال الجوهري.
كما لم تُجب محاضرته عن السؤال القانوني الجوهرِي: كيف يمكن إلزام الدول الخليجية بقرارات مشتركة دون تنازل عن السيادة؟ من دون معاهدة قانونية مُلزمة تحدد الالتزامات والعقوبات، ستظل المشاريع الأمنية حبراً على ورق. كما أغفل الخطاب غياب إطار قانوني موحّد للأمن الجماعي على غرار حلف الناتو، وافتقر لتفصيل الآليات التشريعية للتحول الاقتصادي، مثل حماية المستثمرين، وضمان استقلال القضاء، ومكافحة الفساد، وهي جميعها شروط أساسية لاستدامة أي مشروع تنموي.
2. غياب البعد الاجتماعي والحقوقي
الأمن لا يُبنى بالمعادلات العسكرية أو الاقتصادية فقط، بل بالشرعية السياسية وحقوق الإنسان. الرميحي تجاوز الحديث عن المطالب الشعبية، ولم يتطرق إلى دور الاستبداد وانتهاكات الحقوق التي تمثل أحد أبرز العوائق أمام التنمية والتطور السياسي. غياب الإصلاح الدستوري والمشاركة الشعبية يظهر جليًا في خطابه، الذي اكتفى بالبعد الاقتصادي والتقني، متجاهلًا الحرية والمساءلة. أي منظومة أمنية لا يمكن أن تُبنى على أرض هشة من التمييز الطائفي وغياب العدالة الاجتماعية. كان من الأجدر أن يتضمن مشروعه بندًا صريحًا حول الشفافية والمواطنة المتساوية، باعتبارها ركائز للاستقرار لا شعارات أخلاقية مجردة.
كما تكشف رؤية الرميحي انحيازًا إلى المدرسة الفوقية التي ترى أن الأمن يُصنع في القمم والمؤتمرات، لا في المجتمعات. لكن الواقع الخليجي يثبت أن الأمن يبدأ من القاعدة الاجتماعية: عدالة توزيع الثروة، إصلاح التعليم، ضمان الشفافية، وبناء الثقة بين المواطن والدولة. ومن دون منظومة ثقة داخلية تعيد تعريف العلاقة بين الحاكم والمحكوم على أساس الحقوق والواجبات، ستظل أي منظومة ردع جماعية بلا جذور شعبية حقيقية.
بالإضافة إلى ذلك، يرفع الرميحي شعار "من الرمال إلى العقول"، لكنه يغفل أن التحول المعرفي يحتاج أولًا إلى حرية فكرية قبل أي استثمار في التعليم. لا يمكن بناء اقتصاد معرفي في ظل الرقابة الفكرية والإعلامية أو غياب الحريات الأكاديمية والمساءلة المؤسسية. الانتقال من الريع إلى المعرفة لا يتحقق إلا عبر تحرير العقل النقدي القادر على مساءلة السلطة والمجتمع معًا، إذ إن التنمية لا تنفصل عن الحرية.
3. التهديد الخارجي مقابل هشاشة الداخل
ركز الرميحي على "المشروعين الإيراني والإسرائيلي" بوصفهما التهديدين الرئيسيين للخليج، إلا أن خطابه مال إلى الدراما السياسية أكثر من التحليل الاستراتيجي. فقد بالغ في وصف الخطر الخارجي، متجاهلًا هشاشة الداخل: غياب الحريات والحقوق، ضعف التعليم، الفساد والاستبداد، غياب المحاسبة والعدالة، استقلالية السلطات الثلاث، والاعتماد الريعي على النفط. وبنفس الوقت تجاهل خطورة تطبيع بعض الدول الخليجية مع الكيان الصهيوني الغاصب وجرائمه ضد الانسانية.
إن مواجهة التهديد لا تكون بتضخيم العدو، بل بإصلاح الذات أولًا. فالتهديد الخارجي لا يكتسب قوته إلا من قابلية الداخل للاختراق، وهو ما لم يتوقف عنده الرميحي. كان الأجدر أن يوازن بين مقاربة الردع الخارجي ومقاربة الأمن الإنساني الداخلي، الذي يبدأ من تمكين المواطن لا من حشد الجيوش.
يتباين هذا الخطاب مع موقف النائب الكويتي السابق صالح أحمد عاشور، الذي دعا إلى تحالف أمني وعسكري واقتصادي يشمل إيران والعراق، ولاحقًا تركيا واليمن، لمواجهة التهديدات الإقليمية المتصاعدة، عقب العدوان الإسرائيلي على قطر في 13 سبتمبر 2025. هذا التباين يكشف هشاشة المقاربة الرسمية وضعف منظومة الدفاع الخليجية.
4. إخفاق مجلس التعاون وقصور درع الجزيرة
تجاهل الرميحي مراجعة إخفاقات مجلس التعاون في تحقيق أهدافه الجوهرية، من توحيد السوق والعملة إلى بناء سياسة دفاعية مشتركة. كما أغفل الحديث عن قوات درع الجزيرة التي تحولت من ذراع دفاعية إلى أداة جدلية في التدخلات الداخلية، خصوصًا في البحرين عام 2011، ما أفقد المشروع الأمني الخليجي شرعيته الأخلاقية والشعبية. فلا يمكن تجاوز هذه الثغرات دون نقد ذاتي شجاع وتجديد الثقة الشعبية في المشروع الخليجي عبر شفافية القرار ومحاسبة الأداء، لا عبر تكرار الشعارات القديمة بثوب جديد.
5. توصيات لتعزيز الجدارة التنفيذية
لكي يحقق أي مشروع أمني خليجي جدارة حقيقية، لا يكفي أن يبقى رؤية نظرية؛ يجب أن يربط القانون بالسياسة والمجتمع والاقتصاد. تبدأ الخطوة بصياغة معاهدة للردع الجماعي تحدد الالتزامات بوضوح ضمن إطار قانوني دولي، دون توظيفها لقمع الاحتجاجات الشعبية، مرورًا بدمج البعد الحقوقي والحوكمي لتعزيز الشفافية والمساءلة، وصولًا إلى إصلاح اقتصادي شامل يركّز على تمكين الشباب والمرأة وحماية العمالة. كما يجب تقييم المخاطر الواقعية بعقلانية، وتبني مفهوم الردع المرن الذي يشمل الاقتصاد، والأمن السيبراني، والثقافة، لتحويل الأمن من شعارات نظرية إلى منظومة تنفيذية قادرة على استقرار الداخل وحماية الخارج، وضمان أن يصبح الردع أداة فعالة وشاملة، لا مجرد عنوان بلا مضمون.
ختاما... يثبت خطاب الرميحي، رغم عمقه الظاهري، أنه صوت ابن بارّ للأنظمة أكثر من كونه صوت الباحث الحرّ الذي ألّف يومًا كتاب «البحرين وقضايا التغيير السياسي والاجتماعي». بين الرميحي المفكر النقدي والرميحي المحاضر الرسمي مسافة صنعتها السلطة أكثر مما صنعها الفكر.
أمن الخليج لا يُصان بالردع وحده، بل بالإصلاح السياسي والعدالة الاجتماعية. التحدي الحقيقي لا يكمن في "زمن التوحش" الخارجي، بل في كسر الجمود الداخلي، وإعادة تعريف الأمن ليشمل الإنسان قبل النفط، والحرية قبل الجغرافيا، والمواطنة قبل التحالف. حينها فقط يمكن أن يولد «أمن خليجي جديد» قادر على ردع الفساد والتبعية قبل أن يردع الآخرين.
الهوامش:
أخبار الخليج | خلال ندوة بنادي الخريجين.. الدكتور محمد الرميحي:أمن الخليج مرتبط بالردع الجماعي والتنمية المستدامة https://share.google/zoDS82Acgtg1MPNWa
جريدة البلاد | المفكر الكويتي د. محمد الرميحي: تحولات الصراع الإقليمي تؤكد ضرورة بناء منظومة ردع خليجية https://share.google/OjZfgz9n2HLVvBOKp
المرحلة تتطلّب منظومة ردع خليجية وسوقًا مشتركة - صحيفة الأيام البحرينية https://share.google/IufRgN2SySvPRdI9m
المفكر الرميحي: المنطقة بين سرديتين توسعيتين.. والتنوير المخرج https://share.google/k1qUMIC02uLol7h0O
- 2025-10-28البحرين وإعادة إعمار غزة: حين تُقايض الأنظمة الخليجية الدم الفلسطيني بشرعية إسرائيلية؟
- 2025-10-15الثقة لا تُبنى بالعقوبات الدائمة؛ نحو إلغاء قانون العزل السياسي
- 2025-10-13حاكمية المنهج الأمني في مفاصل حياة البحرينيين
- 2025-10-11الكهرباء والماء .. مسرحية آل خليفة الجديدة
- 2025-10-06القصر الذي اغتال السياسة في البحرين