القصر الذي اغتال السياسة في البحرين

محمد البناء - 2025-10-06 - 2:30 م
مرآة البحرين : في البحرين، السياسة ليست ميتة من تلقاء نفسها؛ تم اغتيالها عمدًا، برصاصةٍ خرجت من داخل أسوار القصر. من يملك القصر يملك مفاتيح اللعبة، ويمسك برقاب الدولة من عنقها حتى آخر رمق. هنا لا تحكم المؤسسات، بل تُدار من غرفةٍ واحدة، بقرار واحد، وإرادة واحدة، وكلمة واحدة.
منذ أن أُعيد تفصيل الدستور عام 2002، وُضعت صيغة لا لبس فيها: الشعب ليس مصدر السلطات، بل الملك شريك (إجباري) في التشريع!
مجلس منتخب منزوع الصلاحيات، أمامه مجلس شورى معيّن، أقوى منه عددًا وأشد منه نفوذًا، يملك القصر من خلاله (حق الفيتو) على أي قانون لا يعجبه. الديمقراطية هنا ليست سوى مسرحية، نصّها مكتوب مسبقًا، والممثلون فيها مجرد أدوات تجميل.
ثم جاء مشهد إعدام المعارضة في العلن. عام 2016، حُلّت جمعية الوفاق، كبرى الجمعيات السياسية المعارضة، بقرار قضائي جاء كالرصاصة الأولى في الرأس. في العام التالي، أُغلقت جمعية وعد، آخر ما تبقى من جسر سياسي عابر للطوائف، ليتحوّل البرلمان رسميًا إلى غرفة صدى للقصر. لم تكن التهم إلا ستارًا؛ الجريمة الحقيقية كانت امتلاك الشجاعة لقول (لا).
وفي 2018، صاغ البلاط (قانون العزل السياسي) الذي يجرّم الماضي، ويحكم بالإعدام على أي مستقبل انتخابي للمعارضين. كل من قاد أو شارك أو انتسب إلى جمعية مُنحلّة، وكل من حوكم في قضايا سياسية، يُمنع من الترشح. النتيجة: انتخابات معقمة من أي صوت معارض، صناديق بلا خيارات، ديمقراطية جثة محفوظة في ثلاجة القصر.
أما الصحافة، فالقصر لا يحتمل مرآة. في 2017، أُغلقت صحيفة الوسط، آخر منفذ إعلامي مستقل، بحجة (الإساءة ونشر أخبار كاذبة) الحقيقة أن جريمتها الوحيدة كانت نقل الواقع كما هو. بإسكاتها، أُطفئ النور الأخير في الغرفة المظلمة التي تُدار فيها البلاد. منذ ذلك اليوم، الإعلام المحلي لا يتنفس إلا هواء البلاط.
لكن السلطة لم تكتفِ بإعدام السياسة وسحق الصحافة، بل ذهبت إلى ما هو أبعد: العبث بالمواطنة نفسها. منذ 2012، جُرّد المئات من جنسيتهم، بعضهم رُحّل، وبعضهم تُرك في وطنه بلا صفة قانونية. هذه ليست سياسة دولة؛ هذه هندسة اجتماعية لتطويع الناس بالتهديد الوجودي.
ولضمان أن لا صوت يعلو فوق صوت البلاط، جرى تلاعب ممنهج بالدوائر الانتخابية. مناطق كاملة محشورة في دوائر تضم عشرات الآلاف، وأخرى (مدللة) بدوائر صغيرة، لخلق ميزان مائل إلى الأبد. هذا ليس تمثيلًا سياسيًا، بل عملية جراحية في جسد المجتمع لقطع أي شريان قد يغذي المعارضة.
تقارير المنظمات الدولية واضحة وفاضحة: البحرين في ذيل مؤشرات الحرية السياسية والمدنية. لا انتخابات تنافسية، لا قضاء مستقل، لا مجال عام مفتوح. هذه ليست ادعاءات المعارضة، بل وقائع موثقة في تقارير هيومن رايتس ووتش، والعفو الدولية، وفريدوم هاوس. كل هذه الجهات رصدت النتيجة نفسها: القصر يحتكر السياسة، ويُدير البلاد بعقلية إدارة أمنية، لا إدارة دولة.
خطاب السلطة دائمًا نفسه: (الأمن والاستقرار) و (التهديدات الخارجية) لكن أي أمن هذا الذي يبنى على سجن السياسة وخنق المجتمع؟ وأي استقرار يُحافظ عليه حاكم يكمم الأفواه ويعزل نصف الشعب عن المشاركة؟ الحقيقة أن هذا (الأمن) هو قيدٌ ثقيل، و(الاستقرار) ليس إلا سكون ما قبل الانفجار.
المطلوب اليوم واضح:
1. إلغاء فوري لقوانين العزل السياسي وإعادة الحقوق السياسية والمدنية للمواطنين.
2. رفع الحظر عن الجمعيات السياسية، وإلغاء قرارات الحل التعسفية.
3. إعادة فتح الأجواء للصحافة المستقلة.
4. التراجع إسقاط الجنسية وجبر الضرر للضحايا.
5. إعادة رسم الدوائر الانتخابية على أساس العدالة والمساواة، لا الولاء والطاعة.
القصر الذي يمسك بالخيوط كلها قد يظن أنه يضمن السيطرة، لكنه في الحقيقة يزرع بذور الغضب في عمق الأرض. حين تُمنع السياسة، لا يبقى أمام الناس سوى الصمت أو الانفجار، وحين تغلق الأبواب، تكثر النوافذ الخفية.
السياسة ليست رفاهية يمكن إلغاؤها بمرسوم، بل هي صمام الأمان الوحيد للدولة. أما حين تُدار البلاد من غرفة مغلقة في القصر، فلا يبقى من الدولة إلا قشرة، ومن السياسة إلا اسم. البحرين تستحق حياة سياسية حقيقية، لا حياة مصممة في مختبر البلاط.
إذا لم يُفرَج عن السياسة من سجن القصر، فسيأتي يوم يصبح فيه السجن واسعًا بما يكفي ليضم الجميع، حاكمًا ومحكومًا. وهذا هو الخطر الذي لا يراه من يعيش في برج السلطة العالي، لكنه يقترب أكثر مما يظنون.