الجريمة التي عرّت الدولة .. ماذا كان وراء سحب جنسية آية الله قاسم؟

2025-09-16 - 12:44 م

مرآة البحرين : منذ أن أقدم نظام آل خليفة على سحب جنسية المرجع الديني الكبير آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم في يونيو 2016، لم تتوقف الأسئلة عن الدوافع الحقيقية وراء هذه الخطوة. هل كان الأمر مجرد قرار إداري بارد كما حاولت السلطة أن تسوّق؟ أم كان تعبيرًا عن أزمة نظام يبحث عن استعراض وهمي للقوة في وجه رمز ديني ووطني يتجاوز حجمه حدود البحرين.
إن ما وراء هذا القرار أكبر بكثير من ورقة رسمية تُسحب، وأخطر من محاولة عقابية ضد شخصية بعينها؛ إنه باختصار مشهد سقوط دولة في هاوية الهشاشة!

أولًا: ما الذي يخيف السلطة من قاسم؟

لنفهم لماذا استهدف النظام الشيخ قاسم، علينا أن نضع في الاعتبار أنه لم يكن مجرد عالم دين عادي. هو ابن هذا الشعب، خرج من ترابه، حمل همومه، دافع عن قضاياه وكان منذ بداية حياته حاضرًا في ساحات الفكر والسياسة والإصلاح والتربية الدينية. لم يكن خطابه خطبة عابرة على منبر الجمعة، بل مشروعًا متماسكًا لبناء وعي جمعي.

المرجع الديني الرمز آية الله الشيخ عيسى قاسم لم يرفع سلاحًا، لم يقم بانقلاب عسكري، لكنه صنع ما هو أخطر على أي سلطة استبدادية: صنع إنسانًا يعرف حقوقه ويطالب بها. وهذا أخطر ما يمكن أن يواجهه أي نظام قمعي، شعب يعرف نفسه، ويعرف أن الشرعية لا تستورد من الخارج، ولا تُشترى بالمال، بل تُبنى من الداخل.

ثانيًا: الدولة التي لا تحتمل كلمة

حين سحب النظام جنسية آية الله الشيخ عيسى قاسم، كان يرسل رسالة بليغة بأنهم عاجزون عن مواجهة كلمة واحدة، يرتعدون من منبر ِ جامع، ويُرهبهم شيخ تجاوز الثمانين، رغم تقدمه في السن وضعفه الجسدي. كلماته ليست مجرد حروف، بل إرادة أمة كاملة، ضمير الشعب وروح مقاومته. كل خطاب له يفضح جبروتهم ويكشف هشاشة سلطتهم، ويُحول الخوف إلى واقع يسيطر عليهم. لا يمكن لقوة مادية أن تُسكت الحقيقة التي يحملها، ولا تهديد يمكنه أن يوقف نور الحق الذي يشع من قلب شيخ حكيم، رمز الصمود والثبات.

إن هيبته لا تأتي من منصب أو سلطة دنيوية، بل من عمق معرفته وفهمه للقيم والمبادئ الدينية ، ومن ارتباطه الروحي والشعبي بشعبه الذي يتطلع إليه كرمز للأمل والحرية. كل كلمة يقولها تصيبهم في مقتل، لأنها تجسد ما يرفضونه: الحق، العدالة، والاستقلالية عن الخضوع للجبروت. لقد أصبح صوته بمثابة مرآة تكشف كل زيفهم، ونورًا يفضح كل مخططاتهم. في مواجهة هذا الشيخ، لا يمكن لأي قوة مادية أن تحقق نصرًا عليه، لأن قوته ليست جسدية، بل معنوية، متجذرة في الأمة نفسها، في تاريخها، وفي روح المقاومة التي يحملها كل مواطن صامد!

أي دولة تلك التي لا تصمد أمام كلمات تخرج من محراب مسجد؟ أي دولة تلك التي تشعر أن هويتها الوطنية مهددة بمجرد وجود رجل يطالب بالحقوق الدستورية للشعب؟!

الحقيقة أن البحرين لم تُبنَ كدولة مواطنة، بل كإقطاعية لعائلة. وحينما تتحول الدولة إلى ملكية خاصة، يصبح وجود أي صوت مختلف جريمة كبرى.

ثالثًا: سحب الجنسية كسلاح سياسي

الجنسية ليست مجرد ورقة، بل هي عقد انتماء بين المواطن والوطن. وعندما تقوم السلطة بسحبها من شخصية كبيرة مثل آية الله الشيخ عيسى قاسم، فهي لا تسحب منه ورقة هوية فقط، بل تعلن عمليًا أن (الوطن لنا وحدنا، وأنتم مجرد ضيوف مؤقتون على أرضنا).

هذا أخطر ما في القرار: تحويل المواطنة إلى سلاح سياسي. فإذا كنت مع النظام، فأنت (ابن الوطن)، وإذا اختلفت معه، فأنت (عديم الجنسية).

هنا نرى كيف انقلبت المعادلة: الدولة بدل أن تكون بيتًا للجميع، تحولت إلى نادٍ مغلق لا يُسمح بالدخول إليه إلا لمن يصفق للعائلة الحاكمة؟

رابعًا: العُقدة الطائفية

لنكن واضحين، قرار سحب جنسية آية الله قاسم لم يكن فقط قرارًا سياسيًا، بل كان أيضًا انعكاسًا لمرض طائفي متجذر. فالشيخ لم يُستهدف لأنه شخصية بحرينية بارزة وحسب، بل لأنه يمثل الثقل الديني والسياسي للطائفة الشيعية في البحرين.

النظام أراد أن يرسل رسالة مزدوجة: للداخل، أنه قادر على كسر الرموز الأكثر احترامًا عند الشيعة؛ وللخارج، أنه يسير في ركاب المحور الأمريكي - السعودي - الإسرائيلي الذي يرى في أي حضور شيعي مستقل خطرًا استراتيجيًا.؟

خامسًا: هوس السلطة بالرموز

منذ عقود، يحاول النظام البحريني أن يُخضع كل الرموز الوطنية والدينية تحت وصايته. لا يَحتمل وجود زعيم لا يُعيّن بمرسوم ملكي. آية الله قاسم رمز الحر، لم يُشترَ ولم يُرهب.
وهنا تكمن المشكلة، الأنظمة المستبدة لا تخشى المليون المطيع، لكنها ترتعد من فرد عصيّ على التدجين. قاسم كان ذاك الفرد الذي لا يُشترى، لا بالمنصب ولا بالتهديد.

سادسًا: محاولة قطع الرأس عن الجسد

النظام ظن أن باستهداف القائد قاسم يمكن أن يُربك الحراك الشعبي. لكنه نسي أن الحركات الشعبية لا تختزل في شخص واحد، حتى لو كان بحجم قامة آية الله قاسم، بل العكس، حينما يستهدفون الرمز، يتحول إلى شعلة رمزية تُلهب الوعي الجمعي.
وهذا ما حدث فعلًا. سحب الجنسية لم يُضعف الشيخ، بل ضاعف مكانته. لم يُخمد الحراك، بل أعطاه زخمًا جديدًا.

سابعًا: الفضيحة الدولية!

لم يكن النظام يتوقع أن قراره سيكشف عورته أمام العالم. تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الكبرى فضحت القرار واعتبرته انتهاكًا فجًا لحقوق الإنسان. الصحافة العالمية تناولت الخبر كدليل على انعدام الشرعية.
بكلمة أخرى: النظام أراد أن يُسكت صوتًا داخليًا، فإذا به يصنع فضيحة خارجية ارتدت عليه.

ثامنًا: خلفية إقليمية

لا يمكن قراءة القرار بمعزل عن المشهد الإقليمي. في ذلك الوقت، كانت السعودية غارقة في حرب اليمن، وإيران تتوسع في نفوذها الإقليمي بعد الاتفاق النووي، والبحرين مجرد تابع صغير يعيش في ظل الخيمة السعودية.
سحب جنسية آية الله الشيخ عيسى قاسم جاء كجزء من الرسالة السعودية ضد أي حضور شيعي مستقل في المنطقة. النظام البحريني لم يكن إلا أداة ضمن لعبة أكبر، منفذًا سياسة (القمع الوقائي) لأي تغيير جذري.

تاسعًا: لماذا فشل القرار؟

رغم كل ما أريد له أن يحقق، القرار فشل على عدة مستويات :
1. فشل سياسيً : إذ لم يُنهِ الحراك، بل أججه.
2. فشل دينيً : ازداد قاسم مكانة روحية ورمزية بين أتباعه.
3. فشل اجتماعيً : فقد زاد القرار من الهُوة بين الشعب والنظام!
4. فشل دوليً : عزّز صورة النظام كسلطة قمعية..

عاشرًا : المفارقة الساخرة

النظام الذي يدعي أنه يحمي الوطن، هو نفسه من يعبث بمفهوم الوطن. والسلطة التي تتشدق بالقانون، هي أول من يدوس عليه. فهل هناك مهزلة أكبر من أن تسحب دولة ما جنسية أحد مؤسسي الحركة الدستورية في البحرين بحجة أنه (لا يحترم الدستور)!

إنها الكوميديا السوداء: دولة بلا شرعية تعاقب رموز الشرعية.

أحد عشر: ما وراء القرار ؟

ما وراء سحب جنسية الشيخ قاسم هو التالي:    
• خوفُ مَرضي من أي رمز مستقل.  
• عجزُ عن مواجهة الكلمة بالكلمة، يؤدي لمواجهة الكلمة بالقمع.
• إقصاء شعب كامل عبر استهداف أبرز رموزه.    
• رسالة ولاء للخارج، بأن البحرين باقية كخط دفاع أمام ما يسمونه (الخطر الشيعي).

لكن في العمق، كان القرار اعترافًا صريحًا بأن النظام قد فقد ثقته بنفسه، وأنه غير قادر على إدارة دولة بالمواطنة، بل بالقمع والحرمان.

اثنا عشر: ما الذي تبقى بعد القرار؟

اليوم، وبعد سنوات على القرار، لم يبقَ منه سوى فضيحته. آية الله الشيخ عيسى قاسم لم يسقط، بل ترسخ حضوره رمزًا وطنيًا وروحيًا. الشعب لم ينكسر، بل ازداد وعيًا. أما النظام، فقد خرج من التجربة بسمعة أسوأ، وصورة أضعف.

إن ما وراء سحب جنسية قاسم لم يكن إلا محاولة يائسة من نظام مأزوم يبحث عن وهم السيطرة. لكنه في الحقيقة كشف عن هشاشته، وأثبت أن هذه الدولة لا تُبنى على المواطنة، بل على الخوف والولاء الأعمى.

في النهاية، آية الله الشيخ قاسم لم يخسر شيئًا. بل كسب المزيد من احترام شعبه، واحترام أحرار العالم. أما النظام، فقد خسر ما هو أثمن من كل الجنسيات: خسر شرعيته.