يوم 14 أغسطس في البحرين .. جريمة سياسية لإخفاء الاستقلال الحقيقي وتفكيك الوحدة الوطنية

محمد البناء - 2025-08-17 - 5:45 م

مرآة البحرين : في 14 أغسطس 1971، أُعلن استقلال البحرين عن (الاستعمار البريطاني) ، وتوّج هذا اليوم مرحلة نضالية طويلة من شعب استثنائي رفض الهيمنة الأجنبية، وتمسك بحقه في السيادة والحرية. لكن رغم أهميته (الوطنية والتاريخية)، تم تغييب هذا اليوم بشكل ممنهج من قبل النظام الحاكم في البحرين ، وتحويله إلى ذكرى منسية، بينما استبدل بيوم 16 ديسمبر الذي لا يعبر عن الشعب ولا إرادته، بل عن انفراد الحاكم و(وصايا السفير الأمريكي).

لماذا يتم تغييب هذا اليوم؟ وما هي الأهداف الحقيقية وراء هذا التغييب؟

1. السيطرة على ذاكرة الشعب وسلب إرادته:
أول وأهم سبب للتغييب هو أن يوم 14 أغسطس يمثل رمزية استثنائية (لوحدة إرادة الشعب)، ولحظة (تأسيس دولة دستورية عقدية) تُعبّر عن مشاركته السياسية، من خلال انتخابات (مجلس تأسيسي 1972) و (دستور عقدي 1973). هذا اليوم هو تمثيل واضح لإرادة شعبية تحررت من الاستعمار وبدأت تبني كيانها الوطني السيادي.

إن ترك النظام هذا اليوم حيًّا في الذاكرة الوطنية، يعني السماح للشعب أن يتذكر أنه يمتلك حقه في (الاستقلال الحقيقي)، وحقه في تقرير مصيره، وحقه في الحياة الديمقراطية. وهذا ما لا يريده النظام المرتهن للخارج ، لأنه يعني إلغاء قبضته على السلطة، ويهدد وجوده الاستبدادي المبني على القمع والوصاية الأجنبية.

لذلك، تم تغييب هذا اليوم لقطع هذا الوصل بين الشعب وإرادته، وجعله ذكرى هامشية بلا قيمة، ليبقى (الشعب أسيرًا لتاريخ مزيف) يفرضه الحاكم ووصيّه الأجنبي.

2. إلغاء رموز الديمقراطية والتعددية السياسية:
تغييب 14 أغسطس يعادل إلغاء تجربة دستورية حقيقية بدأت في 1972 مع دستور عقدي بين الحاكم والمحكوم، وفتحت الباب لانتخابات أول مجلس نيابي في 1973.

النظام لم يقبل بأن يملك الشعب صوتًا حقيقيًا، أو أن تتشكل مؤسسة تمثل الشعب فعليًا. لذلك وبعد وقت قصير، عام 1975، تم (إلغاء البرلمان) و(فرض قانون أمن الدولة)، وبدأ القمع المنهجي لكل مشروع ديمقراطي.

إذا بقي يوم 14 أغسطس حيًا، فهذا يذكر الشعب (بتجربة السلطة الشعبية) التي أُُجهضت، ويُعيد الحراك السياسي إلى جذوره، مما يزيد من شعور النظام بالخطر، ويدفعه لتكريس تغييب هذا اليوم لضمان استمرارية حكمه.

3. حماية مصالح (المستعمر الأمريكي الجديد) ودعم بقاء النظام الفاقد لشرعية الشعب:
منذ انسحاب بريطانيا -شكلياً- حلّ المستعمر الأمريكي محلها في البحرين، عبر قاعدة الجفير البحرية، والتي تحولت إلى مقر قيادة الأسطول الخامس الأمريكي، وهي نقطة ارتكاز استراتيجية للتحكم العسكري والسياسي في الخليج.

النظام الحاكم يضمن استمراره عبر هذا الغطاء العسكري الأمريكي، ويقدم التنازلات للولايات المتحدة مقابل دعمها له في قمع الشعب وحقوقه وإخماد ثوراته.

إذا تم الاعتراف بيوم 14 أغسطس كعيد استقلال حقيقي، فهذا يعني فضح المستعمر الأمريكي والقاعدة العسكرية، وتأكيد عدم وجود سيادة حقيقية للبحرين، وهو ما يخشاه الاحتلال والنظام.

لذا فهما يدفعان بكل قوتهما إلى تغييب هذا اليوم وإحلال يوم تنصيب الحاكم الذي يرمز إلى استمرار الوصاية الأجنبية.

4. تفكيك الوحدة الوطنية وتأجيج الانقسامات الطائفية والسياسية:
يوم 14 أغسطس هو يوم يجمع كل أطياف البحرينيين على قاعدة وطنية جامعة، يوم يرمز إلى نضال موحد ضد الوصايا الأمريكية والظلم، يذكر الشعب بأن استقلاله كان خيارًا مشتركًا وغير مرتبط بالطائفية أو الولاءات الخاصة؛

النظام، الذي يعتمد على سياسة فرق تسد، لا يريد أن يرى (وحدة وطنية حقيقية)، ولا يريد أن تُعيد الشعوب التفكير في استقلالها الموحد.

لذلك أُخفي هذا اليوم، وحُل محله يوم 16 ديسمبر الذي يرتبط بتثبيت (حكم أقلية طائفية عائلية)، وأصبح رمزًا للانقسام والتفرقة.

غياب هذا اليوم الحقيقي من الذاكرة يساهم في تفكيك الوحدة الوطنية، ويُمكّن النظام من اللعب على وتر الطائفية والولاءات الضيقة، ويُعيق بناء مشروع وطني جامع مقاوم للاحتلال؟

5. منع إشعال شرارة الحراك الشعبي واحتواء الثورات:
الثورات الشعبية التي شهدتها البحرين، خصوصًا انتفاضة 14 فبراير 2011، كانت محاولات لاستعادة الاستقلال الحقيقي، والعودة إلى المشروع الديمقراطي الدستوري العقدي الذي تم تغييب رموزه، بدءًا بيوم 14 أغسطس.

احتضان الشعب لهذا اليوم يعيد إشعال الحراك السياسي ويجمع القوى حول مطالب واضحة لوحدة وطنية ومقاومة أي وصايا أجنبية

النظام والخارج والمستعمر الجديد يدركان أن إحياء هذا اليوم يعني تهديدًا مباشرًا لوجودهما، لذلك يضعان كل جهودهما لمنع هذا الإحياء، من خلال القمع، وإلغاء الاحتفالات، وإخراج الشعارات الوطنية من التداول الرسمي.

6. إبقاء الشعب في حالة ضعف سياسي وتشتت اجتماعي:
تغييب يوم 14 أغسطس هو جزء من استراتيجية أكبر لإبقاء البحرينيين مشتتين، بلا ذاكرة وطنية جامعة، بلا وعي سياسي واضح، وبلا أفق حقيقي للاستقلال والسيادة.

هذه الحالة تجعل الشعب أكثر عرضة للاستغلال السياسي والطائفي، وتسمح للنظام بدعم الوصايا الأمريكية باستمرار دون مقاومة شعبية واسعة.

7. فضح عقد الخيانة السياسية الذي جرى لاحقًا:
هذا اليوم ليس مجرد تاريخ استقلال، بل شهادة على أن الشعب كان شريكًا في صياغة مصيره وقراره عبر المجلس التأسيسي، قبل (الانقلاب على هذه الشراكة). تَذكُرهُ يفتح جروح الانقلاب على الدستور العقدي وإلغاء الالتزام بفصل السلطات، وتحويل البلاد من دولة مواطنة إلى ملكية مطلقة بحكم المراسيم.

8- التغييب كأداة سيطرة على سردية التاريخ والنضال:
النظام لا يغيّب هذا اليوم فقط ليُخفي الاستقلال الحقيقي، بل ليُعيد كتابة التاريخ بما يخدم مصالحه.

إعادة إنتاج سردية وهمية تجعل استقلال البحرين مرتبطًا بولاء الحاكم وليس بإرادة الشعب، فتغييب 14 أغسطس هو حصن منيع في مواجهة أي محاولة لإحياء رواية (المقاومة الحقيقية).

9- تغييب رمزية الاستقلال لمنع تجديد العهد بين الشعب والقيادة الوطنية:
في مجتمعات الاستعمار الحديث، يصبح ربط الشعب برموز الاستقلال والكرامة ضرورة لاستمرارية المشروع الوطني.

غياب 14 أغسطس يمنع هذا التجديد الروحي والوجداني بين الشعب وقيمته الوطنية، ويترك فراغًا يسمح للقوى الطائفية والسياسية المستفيدة من الوضع الراهن بأن تملأه.

10- السيطرة على الذهنية الجماعية عبر خلق رموز بديلة:
النظام صنع من 16 ديسمبر (رمزًا للاستبداد) ، ليس فقط كبديل سياسي، بل كآلية نفسية لتوجيه ولاء الشعب بعيدًا عن إرادة الحرية.

هذا الإزاحة الرمزية تؤثر على وعي الأجيال الجديدة، التي تُربى على قصص السلطة، لا على قصص الشعب؟؟


11- كسر رواية (المكرمة):
السلطة تحرص على ترويج أن كل الحقوق السياسية والاقتصادية "منحة" من الحاكم، لا ثمرة نضال شعبي.
14 أغسطس ينسف هذه الفكرة، لأنه يروي أن الاستقلال وانتزاع السيادة تم بضغط الإرادة الشعبية، وليس بمكرمة فوقية. مما يُهدد شرعية سردية الحكم التي تُربّي أجيالاً على الطاعة لا المطالبة.

12- تحوله لمنصة محاسبة للاستعمار الجديد:
إحياء يوم الاستقلال سيعيد النظر في حقيقة أن السيادة التي نالها الشعب سنة 1971 قد تآكلت لاحقًا (بوجود القواعد العسكرية الأجنبية)، والارتباط الأمني والسياسي بالخارج. وهذا يفتح ملف (استعمار ما بعد الاستقلال) وهو ملف محرم في الإعلام الرسمي

13- تفتيت الحراك الثوري وتشتيت قواه:
من خلال إلغاء هذا الرمز والتاريخ الوطني، يزرع النظام (شعورًا بعدم الانتماء والاغتراب) بين الشباب والقوى الوطنية، وذاكرته الوطنية، ما يؤدي إلى تفكك الحراك، وإضعاف حركته، ويصبح السخط شعورًا فرديًا لا مشروعًا جماعيًا؟

14- تغييب يوم 14 أغسطس والتحديات الإقليمية:
في ظل الصراعات الإقليمية، تخشى السلطة الحاكمة في البحرين أن يتكرر نموذج ثورات الربيع العربي عبر يوم 14 أغسطس.
فالتغييب (جزء من استراتيجية أوسع) لمنع التسلل الثوري، والتحكم بالتحولات الوطنية في إطار إقليمي مضطرب.

15- إلغاء يوم 14 أغسطس لتفادي أي تذكير بتضحيات الماضي:
هذا اليوم يحمل ذكريات نضالات ومآسي شعبية، الأمر الذي يُشعر النظام بخطر إشعال فتيل (إعادة تقييم تاريخ الاحتلال والقمع).
فالنظام يفضل أن يظل الشعب غافلًا عن ماضيه المقاوم كي يضمن استمرارية سلطته.

16- التغييب لضرب مشروع الدولة المدنية الوطنية:
يوم 14 أغسطس يمثل (بداية مشروع دولة دستورية عقدية مدنية) قائمة على الشراكة والحقوق السياسية، وغيابه يعزز نفوذ الدولة البوليسية ويقضي على أمل بناء دولة حديثة.

17- التغييب لإضعاف الخطاب المقاوم في وجه الاحتلال:
هذا اليوم هو (رمز للحركة الوطنية التي قاومت الاستعمار والقمع)، وغيابه يقطع جذور المقاومة ويحولها إلى خطاب هامشي لا يؤثر على السياسة القائمة التي تفتقد أي تراث أو جذور نضالية.


غياب يوم 14 أغسطس هو (جريمة سياسية وتاريخية) تُقترَف بحق الشعب البحريني، هو محاولة لإبقاء الاستعمار السياسي والعسكري الجديد ودعم لنظام قمعي مستبد، وإلغاء لحلم استقلال حر ديمقراطي.
لكن إرادة الشعب قوية، وذاكرته باقية، والحقائق التاريخية لا تُمحى، وستظل 14 أغسطس نبراسًا لمن ينشد الحرية والوحدة والسيادة والاستقلال، وستظل تلك الذكرى في قلوب الأحرار شعلة لا تنطفئ.