هل يسلّم البحارنة عاشورهم للسلطة؟

2025-07-14 - 4:07 م

مرآة البحرين : تشبه الحالة التي يتعرض لها شيعة البحرين لتدجين إحياء عاشوراء وحصرها في القالب الذي تريده السلطة، الحالة التي يعيشها حزب الله في لبنان لتسليم سلاحه للدولة، رغم الاختلاف في الموضوعين على أكثر من مستوى، لكن ما نعنيه أن عاشوراء بالنسبة للبحارنة، مثل السلاح بالنسبة لحزب الله، وكذلك في حالة التسليم، أي تسليم السلاح أو عاشوراء، فالأمر يعني تقديم الحزب لنفسه كلقمة سائغة في فم أعدائه، وكذلك البحارنة.

في السنوات الأخيرة، صار واضحاً أنّ الصراع حول عاشوراء في البحرين هو بين إرادتين، إرادة السلطة التي تعتبر عاشوراء مصدراً للتهديد، وإرادة الشعب الذي يعتبرها سلاحه في المقاومة، ولذلك، بات من الطبيعي أن نرى الطرفان يشدّان عاشوراء كلٌّ من طرف.

هذا الصراع ليس من مفرزات الأزمة الأخيرة، وليس جديداً، ففي عقدي التسعينيات والثمانينيات على الأقل، كان هذا الصراع موجوداً وشرساً، وقد مرّت الشعائر الحسينية خلال هذه الفترات بمرحلة عصيبة جدّاً، مثل إغلاق المآتم وتعطيل المواكب واعتقال الخطباء والرواديد، لكن ما يجعله يحتدم مرّة أخرى هو فشل السلطة في إنهاء ما تبقى من حالة شعبية مزعجة، بعد أن أزاحت على ما تعتقد، شخصية آية الله الشيخ عيسى قاسم وخطّه السياسي المتمثل في التيار العلمائي المعروف، وأغلقت المؤسسات والجمعيات المرتبطة بتياره بشكل مباشر، مثل "الوفاق" و"التوعية"، فيما يُعرف بعد 2016 بالضربة الأمنية الكبيرة التي وجهتها السلطة لهذا التيار، لكنها وجدت نفسها أمام القلعة الأخيرة للبحارنة وهي عاشوراء، تكافح في كلّ سنة من أجل إسكات صوتهم بشكل نهائي.

ولعلّنا نستغرق في تشخيص هذا الصراع وإثباته أكثر من أيّ شيء آخر، لكنه اليوم أوضح من أي وقت مضى، ولا حاجة للتدليل عليه، فالسلطة تريد عاشوراء طقساً روحانياً بعيداً عن السياسة، وتعلن ذلك في كلّ سنة بلسانٍ رسمي، وتُسخِّر أجهزتها الأمنية وإعلامها وكتّابها وذبابها الإلكتروني من أجل إخضاعه لهذا القالب، وربما يمكننا تفهّم هذه الرغبة في لجم عاشوراء بهذا النحو إذا ما نظرنا إلى الطبيعة الاستبدادية لنظام البحرين، لكن الخطير في الأمر إذا ما لاحظنا أن عاشوراء هو آخر ما يملكه البحارنة في بلادهم، في ظلّ صراع أوسع ممتد منذ أكثر من قرن لم ينتزع فيه البحارنة حقوقهم السياسية والاجتماعية حتى الآن، وتستخدم السلطة فيه شتّى الأساليب لتحجيمهم والسيطرة عليهم ككتلة مذهبية وعددية غير مرغوب فيها.

أمّا لماذا عاشوراء هي آخر ما يملكه البحارنة، فلأنّه التعبير الأخير عن الذات والهوية الجمعية، في ظل سعي السلطة منذ العشرينيات إلى انتزاع الحقل الديني من موقعه، ووضعه تحت إبطي السلطة شأنه في ذلك شأن ما تحتكر من سلطات ومواقع قوة، ولأنّها أقصت الشيعة عن مواقع القرار، ولم تقبل بتمثيلهم المذهبي والعددي، وقد استخدمت التجنيس كأداة لمواجهتهم وتغيير التركيبة المذهبية والعددية، ثم طوّقتهم بدوائر انتخابية مختلّة لتحجيم دورهم في المجلس النيابي، ولم تسمح لهم حتى بتأسيس وسائل الإعلام الخاصة بهم، كما لم تسمح بأن تكون أوقافهم رافعة تنموية واقتصادية، مع ملاحظة ما ذكره تقرير صلاح البندر حول مشروع الإقصاء السياسي والاقتصادي للطائفة الشيعية، الأمر الذي عزّز مشاعر الضيم والقهر لديهم، بحيث وجدوا أنفسهم في حرب وجود على كلّ المستويات، غير أن عاشوراء صارت متنفساً لهذه المشاعر، وتعبيراً عن هذا التمثيل، وصوتاً إعلامياً متحرّراً.

وقد يطرأ على بعض السذج من البحارنة الذين يمتهنون الشعائر الحسينية كطقوس سنوية، أن يستنكروا على إخوتهم من أصحاب المواقف المبدئية "تسييس الذكرى"، وهم في ذلك يحذرونهم من وضع الشعائر أمام خطر الإيقاف والتعطيل، ويؤدون دور البيدق في يد السلطة وحربها النفسية، ولا يجدون مشكلة في التماهي مع خطاب السلطة ورؤيتها لعاشوراء، دون النظر إلى الجحيم الذي تحيطه بالطائفة، ولا بظلمها واستكبارها واستهدافها لكلّ حرّ، وهؤلاء ينقسمون إلى ثلاث فئات: فئة ينتفعون من وراء عاشوراء لملئ جيوبهم وأكراشهم ووجاهاتهم، وفئة يستجيبون لجبنهم وخوفهم وقلّة حيلتهم، وفئة يوالون السلطة ويتفاخرون بعمالتهم، وهم يتقاطعون في الرؤية كلّما وجدوا أنفسهم في مواجهة التيار الغالب والرافض للتماهي مع السلطة.

في هذا السياق، إذا كان المطلوب من الشيعي اللبناني والعراقي في ظلّ ظروف أقسى أن يواجه الموت للمحافظة على سلاحه في إقليم يتهدّده بالتكفيريين تارة، وبالحرب القاسية والشديدة تارة أخرى، أو بالاحتلال والوصاية الأمريكية، فإنّ البحراني يخوض معركته في ظروف أقلّ وطأة، وعليه أن يواجه السجن والتنكيل والتعذيب وهو لا يملك خياراً آخر غير المقاومة، لأنّ تسليم عاشوراء يعني تسليم دينه للمقصلة، وهويته للمذبح، ورقبته إلى رقّ العبودية، وأن يكون أشبه ما يكون في ركاب يزيد لا في ركاب الحسين، على أنّ البحارنة بجميع فئاتهم أعرف بمخططات استهدافهم واستهداف هويتهم، وإذا ما اتفقوا حول هذه المسألة، فلا مفرّ حينئذٍ من مواجهتها، ومن تخلّف لأيّ سببٍ كان مما ذكرناه، فلا حاجة للمسيرة أن تتوقف تحت أسباب المتخلّفين، وإلا تعطلت مسيرة الحسين "عليه السلام" يوم خرج ثائراً على السلطان الجائر، لا بحكمٍ خاصّ كما تحبّ تلك الفئات أن تقول لنا لتبرّر تخاذلها، وإنّما بحكم رسول الله (ص) الذي قال: "من رأى سلطاناً جائراً" ولم يحدّد المكان ولا الزمان، ليصبح جريان الحكم على السابق واللاحق، وفي المكان كلّه والزمن كلّه.