قراءة تحليلية في ارتدادات الحرب وتحديات السيادة في البحرين

أحمد رضي - 2025-07-01 - 7:52 م
مرآة البحرين : في خضمّ الأزمات الإقليمية المتصاعدة، تبرز أسئلة مصيرية تمسّ صميم العقد الاجتماعي القائم على الثقة المتبادلة بين الدولة ومواطنيها في البحرين. هذا المقال ليس خطابًا نخبويًا، ولا يصدر عن موقع معارض، بل هو محاولة وطنية مخلصة لنقل نبض الناس، وتحفيز المسؤولين على مراجعة جادّة للمسار.
يطرح المواطن البحريني تساؤلات مشروعة اليوم: ماذا بعد الحرب؟ كيف نحمي أنفسنا في ظلّ عاصفة إقليمية لم نصنعها؟ ومن يحمي هذا الشعب حين تتحوّل أرضه إلى ساحة صراع بالوكالة؟ ولماذا تُدار الأزمات في الخفاء بينما الناس يدفعون الثمن؟ هذه التساؤلات تعبّر عن هشاشة الوضع البحريني، وعن خوف الناس، وقلق الشباب، ووجع المواطنين من مختلف الطوائف والانتماءات. لقد آن للسلطة أن تُنصت لمواطنيها، وأن تجعل من هذه التساؤلات منطلقًا لمراجعة وطنية جادة تُعيد للمواطن كرامته، وللسيادة معناها. إن لم تُطرح هذه الأسئلة الآن، فمتى؟ وإن لم يُجهر بها، فماذا تبقى من دور المواطن ودولة القانون؟!
لماذا سقطت الدولة في امتحان الحماية؟
انتهت الحرب الإيرانية-الإسرائيلية وحليفها الأمريكي، أو هكذا يُقال، لكن ما لم ينتهِ بعد هو ارتداد الزلزال على دول الخليج الصغيرة، والتي وجدت نفسها وسط ساحة حرب لا علاقة لها بقرارها السيادي ولا بإرادة شعوبها. بينما اتخذت حكومة البحرين موقفًا صامتًا وحذرًا، كانت البلاد، بحكم موقعها الجغرافي وعلاقة التطبيع مع الكيان الصهيوني واحتضانها للقاعدة الأمريكية الخامسة، جزءًا موضوعيًا من حسابات أي حرب في المنطقة، شاءت ذلك أم أبت. ولولا أن المعركة كانت محسوبة بدقة، لكانت المنامة تحت الخطر المباشر، دون أن تمتلك القرار الاستراتيجي أو القدرة الدفاعية الحقيقية.
وفي حين ظن البعض بأن البحرين بعيدة عن مرمى الصواريخ، خرجت من هذه الحرب أكثر هشاشة، وأقلّ جاهزية، بل وأضعف ثقةً من شعبها. لم يجد المواطن خطابًا يطمئنه، ولا خطة تحميه من الخطر، ولا توعية إعلامية توضّح طبيعة التهديدات أو آليات الحماية. ولم يُطرح نقاش وطني علني حول هذا الوجود العسكري وتأثيره على السيادة والأمن الوطني. نحن هنا لا ندعو إلى إلغاء التحالفات الإقليمية، بل إلى إدارتها من منطلق السيادة لا التبعية، ومن خلال رؤية وطنية واضحة لا حسابات دولية بحتة.
الواقع أن البحرين لم تكن الوحيدة في الخليج التي واجهت تحديات في الاستعداد لحالة الطوارئ؛ فحتى دول مثل قطر والكويت واجهت مشكلات في هذا المجال، مما يشير إلى ضعف إقليمي عام لا يرتبط فقط بمحدودية الموارد أو بعدد السكان. لكن ما يجعل حالة البحرين أكثر تعقيدًا هو موقعها الجيوسياسي الحساس واحتضانها لقواعد عسكرية أجنبية، ما يرفع من احتمالية استهدافها، ويحولها إلى هدف مباشر أو غير مباشر في أي صراع إقليمي.
لقد كشفت هذه الأزمة بوضوحٍ فادح ضعف الاستعدادات الوطنية، وعجز الدولة عن أداء أقدس واجباتها: حماية مواطنيها وضمان حقوقهم. عاش المواطن في حالة من القلق العميق، وشعر بالعجز وعدم الأمان. لذلك لم تكن الثغرة أمنية فحسب، بل كانت أعمق وأخطر: ثغرة في الثقة بأن الدولة تملك خطة لحماية مواطنيها، وفي قدرة المواطن على الإحساس بأن هناك قيادة تمسك بالدفة وقت العاصفة. وهي أعراض لا تقل خطرًا عن الضربات العسكرية نفسها. وفيما كانت دول مجاورة تُفعّل خطط إخلاء وتؤسس مراكز إيواء وتخاطب شعوبها، كانت البحرين بلا بوصلة داخلية واضحة أو استثمار جاد في أمنها الوطني، مما يكشف عن ثغرة خطيرة في إدارة الأزمات، ويطرح تساؤلات عن أولويات الإنفاق والسياسات العامة.
الإنفاق الأمني في مواجهة التنمية
تشير الجداول الرسمية للميزانية العامة (وزارة المالية، 2023-2024) إلى أن نسبة مخصصات الدفاع والأمن تتجاوز 20٪ من النفقات العامة، مقابل أقل من 10٪ للصحة والتعليم والإسكان. هذا التفاوت يعكس عدم وضوح المعايير لتقدير الفجوة بين الأمن والتنمية، ويصعّب تقييم التوازن المالي بين الإنفاق العسكري والخدمات الأساسية. لكن رغم هذا الإنفاق الكبير، لم نرَ أي جاهزية حقيقية، لا على مستوى الحماية المدنية أو التوعية. فهل المشكلة في حجم الإنفاق وحده؟ أم أن هناك سوء إدارة، غيابًا للمساءلة، وفسادًا إداريًا يعمّق من ضعف الخدمات؟ بالرغم أن رؤية البحرين 2030 تدعو إلى العدالة والاستدامة، إلا أن غياب الشفافية المالية يقوّض ثقة المواطن.
وبحسب دراسة صادرة عن "البيت الخليجي للدراسات" (6 فبراير 2022)، بلغت نفقات الدفاع العسكري 4.1٪ من الناتج المحلي في 2020، أي 826 دولارًا للفرد - وهو ما يعادل بريطانيا، ويتفوق على فرنسا وألمانيا مجتمعتين، ويشكل 44٪ من صافي الإيرادات النفطية و43.9٪ من العجز المالي. وقد دعت الدراسة إلى خفض الإنفاق العسكري للنصف، مما سيوفر 541 مليون دينار يمكن استثمارها في دعم الاحتياطي النقدي، وتوجيه الفائض إلى دعم التعليم والصحة وتحفيز الصناعة الوطنية. هذه أرقام لا يمكن تجاهلها، وهي مؤشرات تدعو لإعادة النظر الجادة في أولويات الدولة المالية.
خارطة طريق للإصلاح الوطني: الأمن يبدأ من الداخل
تُظهر تجارب بعض الدول مثل فنلندا وسنغافورة - رغم صغر مساحتهما وقربهما من بؤر التوتر الإقليمي - أنها نجحت في بناء أمنها الوطني من الداخل، لا من خلال سباق التسلح أو الارتهان للتحالفات الكبرى. لقد استثمرت هذه الدول بذكاء في التعليم، ورسخت الشفافية والمساءلة السياسية، ووسّعت المشاركة الشعبية، مدركة أن قوة الدولة وأمنها الحقيقي يبدأ من الثقة بمواطنيها. لم تتورّطا في سباق تسلح، بل راهنتا على الإنسان، وعلى بناء الثقة بين الدولة والمواطن عبر بناء أسس العدالة والتنمية وإشاعة الحقوق والحريات الأساسية.
وفي المقابل، فإن البحرين، رغم صغر حجمها ومحدودية إمكاناتها، تقف اليوم أمام تحديات شبيهة، لكن بخيارات أشد حساسية. السؤال هنا: إذا كانت دول صغيرة استطاعت أن تؤمن سيادتها من الداخل، فما الذي يمنع البحرين من أن تخطو الخطوة الأولى للاستفادة من التجارب الرشيدة لبناء نموذج مستقل في الأمن والسيادة؟ لقد أثبتت الحرب الأخيرة، كما أزمات أخرى سبقتها، أن التهديدات الخارجية لا تُواجه دون تحصين داخلي حقيقي. وإذا أراد النظام البحريني أن يتفادى الكارثة القادمة، فعليه الشروع بـإصلاح سياسي جذري يبدأ من الداخل ويضع المواطن في صلب المعادلة الوطنية.
ونُخاطب هنا رأس الدولة مباشرة، وندعو إلى:
* الإفراج عن سجناء الرأي، ووقف الانتهاكات الحقوقية.
* استعادة استقلالية القضاء وتشريع قانون عصري للصحافة.
* مكافحة الفساد وهدر الموارد، وتعزيز الشفافية والمساءلة الإدارية.
* تحسين الوضع المعيشي عبر دعم الرواتب وضبط الأسعار وتطوير الخدمات الصحية والتعليمية.
* تفعيل الحريات العامة، وفتح المجال أمام الحياة السياسية بمشاركة فعلية.
* صياغة عقد وطني جديد يُعيد الاعتبار لمفهوم المواطنة الشاملة، ويوازن بين السلطة والحقوق.
خطوات عملية نحو المستقبل
منذ احتجاجات عام 2011، تبنّت الدولة نهجًا أمنيًا صارمًا، ارتكز على ضبط الداخل من خلال التوسع في الأجهزة الأمنية وتقليص الحريات المدنية. هذا التوجه، رغم تحقيقه قدرًا من الاستقرار الظاهري، أدى إلى إغلاق قنوات المشاركة المجتمعية، وخلق فجوة متراكمة في الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة. وتكرار الأزمات الإقليمية - كما في حرب إيران وإسرائيل الأخيرة - يكشف اليوم تكلفة تلك المقايضات على المستوى الوطني.
لذلك، لا يمكن التفكير في إدارة الأزمات الحديثة دون شراكة حقيقية مع مؤسسات المجتمع المدني، التي تمثل ضرورة استراتيجية وجسرًا للثقة بين الدولة والمجتمع. فالشراكة المجتمعية، سواء من خلال (الجمعيات السياسية، المنظمات الحقوقية، النقابات المهنية أو المجالس الأهلية)، تمثل عنصرًا حاسمًا في تعزيز الاستعداد الوطني للطوارئ وتخفيف حدة الأزمات. لذا لا مفر من تنظيمها قانونيًا، وإشراكها فعليًا في التخطيط، وتوفير إطار عمل يوازن بين الحريات والمصلحة الوطنية. كما أن المراجعة الوطنية لا تعني تراجع الدولة، بل تعني نضجها واستعدادها لبناء مستقبل أكثر أمانًا وعدالة.
يمكن اتخاذ خطوات عملية عاجلة تشمل:
* عقد جلسة طارئة في مجلس النواب لمراجعة خطة الطوارئ المدنية.
* إطلاق حملة توعوية وطنية بالتعاون مع المجتمع المدني.
* تشكيل لجنة وطنية مستقلة لتقييم جاهزية البنية التحتية الأمنية والمدنية.
* مراجعة الميزانية العامة لرفع حصة التعليم والصحة والخدمات العامة.
مثل هذه الخطوات ليست شعارات، بل احتياجات حقيقية لبناء دولة قويّة يثق بها المواطنون.
من لا يتعلّم من الأزمات... يُعيد إنتاجها
لا خلاف على أن الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة أمر واقع في السياسة البحرينية، ولكن هذا التحالف لا يعني التبعية، والتنسيق لا يعني التسليم الكامل، والشراكة لا تعني نفي الإرادة الوطنية. ولا تُلغي هذه الشراكات مسؤولية الدولة عن بناء سياسة وطنية مستقلة تجاه حماية مواطنيها. فحين تتحول الأرض البحرينية إلى هدف محتمل لأي صراع دولي، يصبح من واجب الدولة ليس فقط حماية المنشآت، بل حماية الإنسان أولًا.
لقد علّمتنا الحرب أن أمن الأوطان لا يُقاس بالتحالفات أو عدد القواعد العسكرية، بل بمدى جاهزيتها لحماية شعوبها، وبمدى ثقتها بالمواطن الذي لم يفقد الأمل بالإصلاح والتغيير، وبعدالة المؤسسات واستقلالية السلطات، عبر سياسات تصون كرامة المواطن وتمنحه صوتًا في تقرير المصير. التحالفات لا تصنع الأمن إن غابت الثقة الداخلية، والسيادة لا تُختزل في الشعارات، بل تُترجم إلى قرارات جريئة تُعيد الثقة وتُحصّن الداخل وتبني دولة بمؤسسات حقيقية، وتُخرج النظام من عقلية "إدارة الأزمة" إلى عقلية بناء الدولة.
إن كل أزمة تكشف خللًا، وكل مشكلة تفتح بابًا للمراجعة. وما بعد الحرب يجب أن يكون لحظة وعي لخطاب جديد ومقاربة وطنية مسؤولة. فالأمن لا يُبنى بالقواعد العسكرية وحدها، بل بالثقة المتبادلة بين الدولة ومواطنيها، وبالاستثمار في الإنسان قبل السلاح. إن البحرين اليوم أمام مفترق طريق تاريخي: إما مراجعة جذرية وإصلاح يُعيد الاعتبار للسيادة والمواطنة لتكون دولة مؤسسات وعدالة، أو مزيد من الأزمات يكون المواطن أول ضحاياها.
------------------------------------
المراجع:
وزارة المالية البحرينية - مشروع قانون الميزانية العامة 2023-2024:
https://www.mofne.gov.bh
دراسة "البيت الخليجي للدراسات"، 6 فبراير 2022:
https://gulfhouse.org/posts/5007/
قاعدة بيانات الإنفاق العسكري لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)
https://www.sipri.org/databases/milex
Stockholm International Peace Research Institute (SIPRI), "Military Expenditure Database: Bahrain", 2023.
https://www.sipri.org/national-budget-report/bahrain/2023
تقرير "غلوبال فاينانس" عن مؤشر الأمان 2023:
https://gfmag.com/data/economic-data/
صحيفة الأيام البحرينية، الخميس 15 يونيو 2023.
https://www.alayam.com/online/local/1015619/News.html