الدين في قبضة الدولة: تحليل نقدي لبيان المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية

أحمد رضي - 2025-06-25 - 9:54 م
أولًا: السياق السياسي والاجتماعي للبيان
صدر بيان المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في البحرين بتاريخ 19 يونيو 2025، في ظل أزمة سياسية خانقة تتميز بتصاعد مطالب الإصلاح واحتقان شعبي متواصل بسبب غياب العدالة الانتقالية وانعدام أفق المشاركة السياسية. جاء البيان ليحذر من "الانسياق خلف الشائعات المغرضة" و"الدعوات الخارجة عن الحكمة"، في رسالة واضحة تعكس مخاوف السلطة من اتساع الحراك السياسي، خاصة مع مطالبات إطلاق سراح معتقلين سياسيين وإضرابات رمزية.
تزامن البيان مع تصاعد التوترات الإقليمية إثر الهجوم الإسرائيلي-الأمريكي على إيران، وسط تعاطف شعبي بحريني مع إيران في أوساط المعارضة. فكان البيان محاولة لتحجيم هذا التعاطف عبر خطاب ديني يحث على الطاعة و"استقرار البلاد"، مما يكرّس توظيف الدين كأداة ضبط اجتماعي وأمني، وليست وسيلة للوعظ أو الإصلاح.
هذه التقنية ليست جديدة، فشهدتها مصر بعد 2013 عبر خطابات الأزهر، والسعودية بعد احتجاجات القطيف، حيث استُخدمت المؤسسات الدينية لترويج خطاب يستهدف استقرار السلطة على حساب حرية التعبير والمشاركة السياسية.
ثانيًا: الإطار القانوني والحقوقي
يحذر البيان من "الشائعات" وأحيانا من "المساس بالثوابت أو إثارة الفتن"، وهي مصطلحات فضفاضة تستخدم كثيرًا لتقييد حرية التعبير واعتقال المعارضين، دون تحديد قانوني واضح. في حين يكفل الدستور البحريني (المادة 23) والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (المادة 19) حرية الرأي والتعبير، تُستخدم هذه المصطلحات كذريعة لقمع الأصوات المعارضة، كما ظهر في قضايا حقوقيين بارزين مثل نبيل رجب وعلي سلمان.
البيان إذًا يحمل وظيفة ضبطية ضمن خطاب ناعم يهدف إلى قمع الحريات، متجاوزًا مبادئ "الضرورة" و"التناسب" المعتمدة دوليًا. من المفارقات أن يدعو البيان العلماء والخطباء إلى توعية الناس، بينما يُعتقل العديد من الرموز الدينية والسياسية وسجناء الرأي، مما يسهم في خنق المجال العام وتهميش الأصوات الإصلاحية.
ثالثًا: تحليل الخطاب الديني وتوظيف النصوص
استُخدم الحديث النبوي الشريف: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيّته" في سياق سلطوي لإعادة إنتاج منطق الطاعة، بحيث تُفهم المسؤولية على أنها طاعة مطلقة للسلطة، لا التزام بالعدالة والحق. وهذا التوظيف، كما في تجارب السعودية ومصر، يهدف إلى تثبيت الخطاب الذي يشيطن التعددية ويحد من الوعي النقدي.
وبالتالي، تحريف دلالات النصوص المقدسة لصالح تبرير الهيمنة يُضعف مصداقية الخطاب الديني، ويعمّق فجوة الثقة بين المؤسسة الدينية والجمهور، مما يهدد الرسالة الحقيقية للدين بتحويله إلى طقوس فارغة من المضمون التحرري والإنساني.
رابعًا: التحيز الطائفي في الخطاب الديني الرسمي
البحرين مجتمع متنوع طائفيًا، إلا أن المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية يغلب عليه الطابع السنّي بقراره الحكومي النافذ مع تمثيل محدود للطائفة الشيعية، التي يعاني ممثلوها من غياب تمثيل مستقل بعد حل المجلس العلمائي عام 2014، وضعف أداء إدارة الأوقاف الجعفرية.
هذا التحيز لا يعزز فقط الانقسام الطائفي، بل يُضعف الشرعية الوطنية للمؤسسة الدينية بوصفها حَكَمًا رمزيًا يفترض أن يقف على مسافة واحدة من جميع المواطنين. حين تتحول المؤسسة إلى أداة أيديولوجية لخدمة طرف سياسي، فإنها تؤدي إلى تفتيت الوحدة الوطنية، وتُفرغ الدولة من قدرتها على بناء عقد اجتماعي جامع يُكرّم التنوع ويُعزز المواطنة المتساوية.
خامسًا: انحسار الوظيفة الأخلاقية للنخب الدينية
المجلس الأعلى في البحرين، كهيئة حكومية، لا يعكس التعدد ولا يمثل وساطة إصلاحية بين الدولة والمجتمع، بل يقوم بدور تبريري للسلطة، مما يفقده دوره المرجعي. بالمقارنة مع الأزهر الشريف خلال ثورة 2011، حيث أعلن شيخ الأزهر أحمد الطيب رفضه للعنف ضد المتظاهرين، يغيب هذا الصوت الإصلاحي في البحرين. وينتج عن ذلك خطاب ديني رسمي يتماهى مع السلطة، يفرغ المنبر الديني من محتواه الرسالي، ويعمق انعدام المساءلة. وقد وصف المفكر علي الوردي هذا النوع من التديّن السلطوي بـ"وعّاظ السلاطين"، الذين يجمّلون ظلم الطغاة ويعززون وعيًا زائفًا يقوم على الخضوع بدلاً من الوعي.
في الواقع العربي المعاصر، يُستبعد أي صوت قادر على صياغة وعي مغاير أو تقديم بديل سياسي جذري، سواء إسلامي الهوية أو علماني التوجه، مما يُكرس تحوّل المؤسسة الدينية الرسمية إلى أداة قمعية تخدم النظام السياسي القائم.
سادسًا: التأثير المجتمعي والمخاطر المحتملة
يحذر البيان من "إثارة الشبهات" و"المسارات غير المحسوبة"، وهو أسلوب يهدف إلى تقييد الفضاء العام وخلق مناخ من التخويف والرقابة الذاتية. تؤكد تقارير منظمات حقوقية استمرار الملاحقة القضائية للمعارضين والصحفيين، مع توظيف الدين أحيانًا لتبرير هذه السياسات، ما يعزز الانقسام ويقلل فرص المصالحة الوطنية.
هذه الممارسات لا تقيد الحريات فحسب، بل تقوض النسيج الاجتماعي الوطني، فتغذي الانقسامات الطائفية والمذهبية، وتفقد الدين رسالته كمنبع للسلام والتسامح والعدالة، ليصبح أداة لتعميق الصراعات الداخلية. هذا الواقع يهدد استقرار البحرين ويعيق بناء مجتمع مدني صحي يحترم التنوع ويُعرقل المساعي الوطنية نحو المصالحة والعدالة الشاملة.
التوصيات والخاتمة
في ضوء ما سبق، تعد إعادة التوازن بين الدين والدولة في البحرين ضرورة وطنية عاجلة تتطلب إصلاحات شاملة تشمل الجوانب القانونية والسياسية والدينية، بهدف تأسيس مؤسسات دينية مستقلة قادرة على أداء دور روحي وأخلاقي حيادي، بعيدًا عن التبعية السياسية. ولتثبيت هذا التوازن، يُوصى بما يلي:
1. إجراء إصلاح هيكلي وقانوني لإعادة رسم العلاقة بين الدين والدولة على أسس التعاون والتكامل، مع ضمان استقلالية المرجعيات الدينية عن التدخل السياسي والأمني.
2. ضبط استخدام مصطلحات فضفاضة كـ"الشائعات" و"الفتنة" بقوانين واضحة تمنع استغلالها لقمع الحريات.
3. إنشاء آلية رقابية مجتمعية مستقلة تضم علماءًا وحقوقيين وممثلين عن المجتمع المدني، لمراقبة الخطاب الديني الرسمي ومساءلته عن الانحرافات السياسية والطائفية.
4. تشجيع الفكر الفقهي الإصلاحي الذي يعزز قيم الكرامة والعدالة والحرية، ويركز على الشريعة كمصدر للمساءلة الأخلاقية والاجتماعية لا شعارات شكلية.
5. توثيق وتقارير دورية تعرض على الهيئات الدولية المختصة بحقوق الإنسان وحرية الدين، لتوجيه ضغط إيجابي نحو الاستخدام الصحيح للدين.
6. الاستفادة من تجارب إقليمية متوازنة نجحت في موازنة سيادة الدولة واستقلال المرجعيات الدينية، مثل بعض دول جنوب شرق آسيا.
7. تشكيل لجنة وطنية مستقلة لرصد الخطاب الديني الرسمي خصوصًا في أوقات الأزمات، لمنع استغلال الدين في تأجيج الانقسامات أو تبرير القمع.
إن استمرار توظيف الدين كأداة ضبط سلطوية يعيد إنتاج منطق الطاعة الخاضعة، ويقوّض الحريات ويكرّس الانقسام الاجتماعي في مجتمع متعدد الطوائف. كما أن غياب مرجعية دينية مستقلة للطائفة الشيعية يفاقم هذا الفراغ التمثيلي، ويضعف فرص بناء خطاب ديني أخلاقي جامع يخدم المصلحة الوطنية ويعزز التعددية.
في النهاية، لا يمكن إسكات الضمائر التي تطالب بالعدالة والكرامة، ولا يُنتزع الدين من جوهره الإنساني والرسالي بسهولة. والمؤسسة التي تساوم على قيمها تفقد احترام الناس وشرعيتها، وإن احتفظت بسلطانها الزائف. وكما قال الإمام الحسين (عليه السلام): «ألا تَرَوْنَ أَنَّ اَلْحَقَّ لاَ يُعْمَلُ بِهِ وَأَنَّ اَلْبَاطِلَ لاَ يُنْتَهَى عَنْهُ لِيَرْغَبَ اَلْمُؤْمِنُ فِي لِقَاءِ اَللَّهِ مُحِقّاً فَإِنِّي لاَ أَرَى اَلْمَوْتَ إِلاَّ اَلْحَيَاةَ وَلاَ اَلْحَيَاةَ مَعَ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ بَرَماً». هذه الكلمات بمثابة صرخة وعي تدعو لاستعادة الدين كقوة للحق والتحرير، لا كغطاء لظلم السلطة واستبدادها.
- 2025-06-20تغريدة حمد بن جاسم.. وموقف راشد بن عبدالله
- 2025-06-16السيادة المؤجلة: البحرين بين خطر التحالفات وضرورة الإصلاح الداخلي
- 2025-06-14القيادة والسيطرة في إيران.. سياق ونتائج!
- 2025-06-13تفاؤل حذر من شهر محرم المقبل ومطالب لا تزال معلقة
- 2025-06-06وزير ديوان مجلس الوزراء.. بين أفق الصراع والامتداد الطبيعي