القيادة والسيطرة في إيران.. سياق ونتائج!

منصور منصور - 2025-06-14 - 5:08 م
لطالما اعتبرت إسرائيل عقيدة "الضربة الأولى" حجر الزاوية في استراتيجيتها، ضربة استباقية تهدف إلى حسم المواجهة قبل أن تبدأ. تدور كل فلسفة الحرب الإسرائيلية حول هذا المبدأ: أن تضرب أولًا، أن تضرب بقوة وأن تصيب الهدف الاستراتيجي بدقة.
رأينا تجليات هذه العقيدة في حربها ضد مصر عام 1967، حين ركزت الضربة الأولى على المطارات. مطارات كالقاهرة الغربية، وأبو صوير، وغيرها من القواعد الجوية المصرية كانت أول ما تم استهدافه، مما شلّ القدرة المصرية على خوض أي معركة جوية قبل أن تطلق طلقة واحدة حينها.
وفي عدوان تموز 2006 ضد لبنان، أعادت إسرائيل تكييف هذه العقيدة لتضرب البنية التحتية أولًا. لم تبدأ بضرب مخازن الصواريخ، بل بدأت بقصف الجسور، وتدمير الطرق الحيوية، وقطع أوصال الجنوب والبقاع، واستهدفت كل ما يربط المقاومة بأرضها وجغرافيتها.
وفي سوريا، طوّرت إسرائيل هذه العقيدة بشكل أعمق فركّزت على استهداف المباني والمراكز الفنية وغرف التنسيق. لم تكن الضربات رمزية، بل وظيفية. الهدف كان فصل اليد عن الجسد.
اليوم، أصبحت هذه العقيدة أكثر عدوانية: لم تعد تقتصر على الاغتيالات فقط، بل تحوّلت إلى محاولة شاملة لتفكيك منظومات القيادة والسيطرة ليس فقط لدى حزب الله، ولا لدى حماس، بل في إيران نفسها.
الفرق اليوم ليس في النوايا، بل في طبيعة الخصم. فحين تطبق إسرائيل هذه العقيدة على إيران، فإنها لا تواجه حركة مقاومة أو شبكة لا مركزية. إنها تواجه دولة تملك العمق والبنية التحتية والنضج الهيكلي-التنظيمي الكافي لامتصاص الضربات ومواصلة العمل دون أن ترتبك.
الهيكل العسكري الإيراني لا يقوم على تسلسل هشّ ينهار إذا قُطِع الرأس. نحن أمام فروع ووحدات وألوية ومراكز، بعضها مركزي، وبعضها مصمم ليعمل بشكل مستقل. إنه الربط المتصل والمنفصل في آن واحد، فلسنا أمام منظومة أحادية القيادة، بل أمام شبكة متداخلة من التكرار والعمق المؤسسي.
أما حركات المقاومة كحزب الله وحماس، فرغم القيود التي تعمل تحتها، فقد بنت هي الأخرى آليات مذهلة للصمود والاستمرارية. ومع ذلك، لم تسلم من خرافة "قطع الرأس" الإسرائيلية. فمن استهداف السيد محسن شُكْر، إلى واقعة تفجير "البيجر" الغدّارة، وصولاً وليس انتهاءً عند اغتيال شهيد الأمة سماحة السيد حسن نصر الله وخلفه الشهيد الهاشمي سماحة السيد هاشم صفي الدين، فكلها كانت ضربات تهدف إلى قطع الرأس. ومع ذلك، لم يسقط حزب الله، ولم تنهَر حماس. فشلت إسرائيل في شلّهما، واليوم، تجد إسرائيل نفسها أمام واقع أكثر صلابة: إيران ليست فقط أكثر صعوبة في الكسر بل هي مبنية خصيصًا لمثل هذا النوع من المواجهات.
العقيدة الإيرانية هجينة. القوات المسلحة النظامية تعمل بمنطق عسكري تقليدي. أما المؤسسات الثورية كالحرس وما حوله، فتعمل باستراتيجيات مرنة ومتعددة الطبقات، مصممة لمواقف معقدة وذات مخاطر عالية. والأهم من ذلك: إيران لا تعتمد على شخص واحد - لأنها أرست نظامًا مؤسسيًا للخلافة والاستمرارية.
بعد اغتيال القائد العام اللواء الشهيد حسين سلامي ورئيس الأركان الشهيد محمد باقري، كانت إسرائيل تنتظر حالة من الفوضى كما أصابها من تيه رافقها أعقاب عملية 7 أكتوبر. لكن ما حدث كان دقيقًا، سريعًا وهادئًا، لا ذُعر، لا إعلانات طارئة، لا ارتباك في التصريحات أو في إطلاق النار.
تم تعيين اللواء أحمد وحيدي قائدًا للحرس الثوري، وتثبيت الأميرال أمير حبيب الله سياري رئيسًا للأركان. كلا القرارين صدرا مباشرة من القائد الأعلى الإمام الخامنئي، ليس كمبادرات طارئة، بل كجزء من خطة خلافة معدّة مسبقًا. والإسرائيلي الواهم لم يستيقظ على الواقع إلا مع صوت صفارات الإنذار والمسيرات في عمق الأراضي المحتلة. حينها فقط أدرك أن الرد الإيراني لم يتأخر. كانت إسرائيل تأمل أن تترك إيران بلا رأس؛ لكنها وجدت جسدًا التفت... وضرب.
وهذه ليست مجرد نظرية فقد رأيناها من قبل بين عامي 2009 و2013، عندما نفذ جهاز الموساد سلسلة اغتيالات ضد علماء نوويين إيرانيين وتركزت الضربات بين 2011 و2012، حينها لم يتوقف البرنامج النووي، بل تسارع حتى بعد اغتيال الشهيد محسن فخري زاده، المعروف بأنه مهندس المشروع النووي، لم تتراجع إيران بل على العكس، بدأ المسؤولون الإيرانيون يتحدثون علنًا، ليس فقط عن تخصيب اليورانيوم، بل عن تجاوز نسبة 90%. ما كان محظورًا في الخطاب، أصبح فجأة ممكنًا ومباحًا.
واليوم من جديد، قد تجد إسرائيل نفسها قد دفعت إيران إلى الزاوية لكنها لم تحصرها، بل ها هي تخرج أكثر تصميمًا، أكثر التزامًا، وأقرب من أي وقت مضى إلى خطوات كانت تتجنبها سابقًا. خطوات كالتخصيب فوق عتبة السلاح. خطوات كإعلان القدرة التقنية على إنتاج سلاح نووي.
تصوير منظومة القيادة الإيرانية دون رأس، ليس فقط خطأً بل قد يُعد وهماً، إنه خيال ينهار بمجرد أن يهرول الإسرائيليون نحو الملاجئ ويبدأ التفكير بالكارثة التي قد تحصل إذا ما قررت طهران ضرب مفاعل ديمونا.
عقيدة الضربة الأولى قد وجدت أخيرًا خصمًا يليق بها: دولة لا تنجو منها فحسب، بل تحوّلها إلى حافز للنهوض والمواجهة.