تحليل نقدي لقانون الصحافة والإعلام الإلكتروني البحريني 2025م "قمع منهجي بأدوات عصرية"

الصحفي والكاتب أحمد رضي
الصحفي والكاتب أحمد رضي

أحمد رضي - 2025-05-13 - 2:31 م

مرآة البحرين: يُروَجُ قانون الصحافة والإعلام الإلكتروني البحريني لعام 2025 باعتباره خطوة إصلاحية تهدف إلى تحسين البيئة الإعلامية وتعزيز حرية التعبير، غير أن قراءة متأنية لبنود القانون تكشف عن تناقض صارخ مع هذه الادعاءات.
ورغم تزايد الضغوط الدولية على البحرين لتحسين سجلها الحقوقي، لا يبدو أن النظام قد تخلى عن أدوات الرقابة القمعية، بل استعان بتقنيات أكثر تطورًا للحد من الحريات. فالقانون الجديد يعتمد على الرقابة "الناعمة" التي تتخفى تحت ستار التنظيم والإصلاح، لكن جوهره يعزز قبضته على الإعلام، ويكرّس القمع باستخدام وسائل مالية وإدارية قد تكون أكثر فتكًا من الأساليب الأمنية التقليدية.
هكذا يتحول "التحديث التشريعي" إلى غطاء لتقنين السيطرة على الفضاء العام بأسلوب أكثر مرونة لكنه لا يقل خطورة. وتزداد هذه المخاوف وجاهة حين تُقارن مضامين القانون بنصوص الدستور البحريني والالتزامات الحقوقية الدولية، خصوصًا المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، التي تحظر القيود الغامضة والتعسفية على حرية التعبير.
وفيما يلي تحليل نقدي لبعض بنود القانون الجديد:

1. انتهاك الحقوق وحماية القمع
يشكّل قانون الصحافة والإعلام الإلكتروني البحريني لعام 2025 انتهاكًا صريحًا لحقوق حرية التعبير وفقًا للمادة 23 من الدستور البحريني والمادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. يبرز في هذا القانون العديد من البنود الفضفاضة، مثل المادة 69، التي تجرّم "النقد الموجه للملك" و"التعرض لدين الدولة" دون أي معايير محددة، مما يفتح الباب أمام التفسير التعسفي.
وتنص هذه المادة على عقوبات مالية تصل إلى 50 ألف دينار بحريني، وهو مبلغ يتجاوز بشكل كبير متوسط دخل الفرد السنوي. ومن الواضح أنها عقوبات قد تهدف لتكميم الأفواه وترهيب الصحفيين، وتُفضي إلى الرقابة الذاتية.
تستمر هذه الأدوات القمعية في المادة 68، التي تقيّد حرية التعبير تحت مسمى "الإطار الضروري لمجتمع ديمقراطي"، مما يُمكّن السلطات من تفسير "التهديد للأمن الوطني" وفقًا لرغباتها، ويتيح تقييد أي محتوى مخالف للخط الرسمي. وتُربط هذه التقييدات بالمادة 78، التي تسمح بالحجب دون معايير واضحة، مما يُحوّل القانون إلى أداة مرنة للقمع الممنهج.

2. قمع "ناعم" عبر رقابة مالية وإدارية مشددة
بينما تُروج السلطات البحرينية للقانون كخطوة "تقدّمية" بإلغاء الحبس الاحتياطي للصحفيين، يكشف القانون الجديد عن تحول خطير نحو أسلوب "القمع الناعم" الذي يُمارس عبر أدوات مالية وإدارية لا تقل قسوة عن الأساليب السابقة. فالمواد 16 و22 و63 و86 تنص على غرامات باهظة تصل إلى 10 آلاف دينار لمخالفات إدارية بسيطة مثل تأخر نشر تصحيح، أو الاستمرار في العمل رغم إلغاء الترخيص، وهي مبالغ تعيق إنشاء منصات إعلامية جديدة وتُثقل كاهل الصحافة المستقلة.
في المادة 75، يُسمح بحجب المواقع الإلكترونية لمدة تصل إلى عام دون رقابة قضائية حقيقية، ما يمنح السلطات صلاحيات واسعة تُستخدم بشكل متكرر لإسكات المنصات المستقلة.
وهذه العقوبات الإدارية تُضاف إلى إجراءات تعسفية أخرى مثل المادة السابعة، التي تُلزم المواقع القائمة بتعديل أوضاعها خلال 6 أشهر فقط، وهو إجراء قد يؤدي إلى الإغلاق القسري لعشرات المنصات.

3. الترخيص المسبق: هندسة رقمية للإقصاء
تُعيد مسودة القانون إحياء نظام "الترخيص المسبق" (المادة 67 مكرر 2) لإنشاء أي منصة إعلامية إلكترونية، وهو ما يتعارض مع المبادئ الأساسية لحرية التعبير وفقًا للمادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. وتُمنح السلطة التنفيذية - ممثلة بالوزير - صلاحيات غير محدودة لتحديد شروط الترخيص، دون ضمانات قانونية واضحة. وتُستثنى من هذه الشروط فقط الصحف الورقية، مما يُكرّس احتكار الإعلام التقليدي ويقيد الابتكار في الإعلام الرقمي.
كما تنص المادة 67 مكرر (3) على اشتراط عدم الحرمان من "الحقوق المدنية" دون تعريف دقيق لهذا المصطلح، وهو ما قد يُستخدم لاستبعاد النشطاء والمعارضين السياسيين، ويقوّض التعددية. والمادة 67 مكرر (4) تُميز بشكل صريح ضد غير البحرينيين، باشتراط أن يكون المدير المسؤول بحريني الجنسية، مما يُخالف مبدأ المساواة ويمنع المشاركة الفاعلة من الجاليات المقيمة. وبالتالي يُرسّخ هذا النظام هيمنة السلطة التنفيذية على الفضاء الإعلامي الرقمي، من خلال منح الوزير صلاحيات مطلقة في تنظيم التراخيص دون رقابة قضائية أو تشريعية فعّالة، مما يُقيّد التعددية، ويُقصي الكفاءات المستقلة، بما يُعيد إنتاج آليات القمع تحت غطاء قانوني.

4. خنق النشطاء الرقميين والتضييق على حرية الرأي
في خطوة خطيرة، يُوسّع القانون الجديد رقابة الدولة لتشمل بشكل مفرط الأفراد في فضائهم الشخصي على الإنترنت. فقد قامت المادة 3 من القانون بتعريف "المحتوى الإعلامي" بشكل فضفاض ليشمل "كل ما يُنشر أو يُبث"، ما يعني أن حتى التغريدات أو منشورات الأفراد على وسائل التواصل الاجتماعي باتت تخضع لأحكام قانون الصحافة والإعلام الإلكتروني. هذا التوسع القانوني يعني أن المواطنين العاديين أصبحوا هدفًا مباشرًا للملاحقة القضائية، وهو ما يحوّل المنصات الرقمية إلى مناطق محظورة للتعبير الحر. لم يعد هناك فرق بين الصحفي المحترف والمواطن الذي يعبر عن رأيه عبر الإنترنت؛ فالجميع تحت طائلة المحاسبة الجنائية، مما يزيد من خطر التضييق على حرية التعبير.
وتُضاف إلى ذلك المادة 87، التي تُلزم المواقع بنشر "البلاغات الرسمية ذات الصلة بالشأن السيادي أو العسكري" دون تحديد طبيعة هذه المفاهيم، ما قد يُحوّل الإعلام إلى أداة دعاية إجبارية للدولة.
كما تشير تقارير حقوقية موثقة إلى تصاعد مقلق في استدعاء ومحاكمة نشطاء ومدونين لمجرد نشرهم آراء ناقدة، في ممارسة تُشكّل انتهاكًا واضحًا لالتزامات البحرين الدولية بحماية حرية التعبير. هذا التوجه يُكرّس بيئة من الترهيب الرقمي تُقوّض الحق في التعبير الحر، وتُرسّخ الرقابة الذاتية كواقع مفروض، ما يُحوّل الفضاء الرقمي من منصة للتعدد والتفاعل إلى أداة لضبط الخطاب العام وإخضاعه.

5. الغموض التشريعي بوصفه أداة قمع
يتميز قانون الصحافة الجديد بالغموض الخطير في صياغة العديد من مواده، مما يتيح تفسيرها بطريقة تعسفية. كما أن المواد 78 و85 و87 تتضمن عبارات فضفاضة مثل "تهديد الأمن الوطني" و"المصلحة الوطنية" دون تحديد دقيق، مما يجعل النصوص القانونية أداة مرنة في يد السلطات لفرض الرقابة أو تقييد المعلومات التي لا تتماشى مع السياسة الرسمية. هذه الصياغات القانونية تفتح المجال أمام استخدام السلطة التنفيذية لتوظيف النصوص ضد كل من يخالف الرأي السائد.
فالمادة 78 مثلا تمنح المحكمة سلطة حجب المواقع أو فرض الرقابة بناءً على "رؤية المحكمة" حول ما "يهدد الأمن الوطني" دون تحديد معايير واضحة، مما يخلق بيئة غير مستقرة ومحكومة بتقديرات قضائية لا تخضع لضوابط حقيقية، وهو ما يُحول القضاء إلى أداة رقابية لا توفر حماية للحقوق. أما المادة 85، فتُجيز إلغاء الترخيص إذا "تعارضت سياسة الموقع مع المصلحة الوطنية"، وهي عبارة سياسية غير قابلة للضبط القانوني.

6. تهميش المجتمع المدني واستبعاد الصحفيين
إن غياب إشراك ممثلي المجتمع المدني والجمعيات الصحفية المستقلة في مراحل إعداد وصياغة هذا القانون، يُعد مؤشراً واضحاً على انعدام الإرادة السياسية لإحداث إصلاح تشريعي حقيقي. هذا الإقصاء المتعمد يُخالف مبادئ المشاركة العامة وحق المعنيين في التشاور، ويكرّس نهجًا أحاديًا في صناعة السياسات الإعلامية، بما يتنافى مع التزامات الدولة بتعزيز الشفافية والحوار المجتمعي وفق المعايير الدولية.
وعلى الرغم من أن المادة 81 ألغت الحبس الاحتياطي في قضايا النشر، إلا أنها في المقابل أضعفت الضمانات القانونية الممنوحة للصحفيين، من خلال إلغاء شرط الإخطار المسبق لكل من وزير الإعلام وجمعية الصحفيين قبل مباشرة التحقيقات. إن هذا التعديل يُقوّض الحماية الإجرائية المقررة للصحفيين، ويُسهل ملاحقتهم دون رقابة مؤسسية أو نقابية، ما يفتح الباب أمام ممارسات تعسفية ويُضعف استقلالية العمل الصحفي ويُفرغه من الحماية المفترضة في إطار دولة القانون.

7. استهداف الإعلام الرقمي والمدونين
ينطوي القانون على مزيج من التعريفات الفضفاضة والصلاحيات الواسعة الممنوحة للسلطة التنفيذية، ما يفتح المجال أمام ملاحقة النشطاء والمدونين استنادًا إلى تعبيرات عابرة، كالتغريدات أو المنشورات الشخصية، التي لا ترقى إلى مستوى الضرر العام أو التحريض. هذا التوسع غير المبرر في أدوات الرقابة يُحوّل الفضاء الرقمي من ساحة للتعبير الحر إلى حقل ألغام قانوني، حيث يُصبح كل محتوى عرضة للتأويل الأمني والملاحقة القضائية. وتُجسّد المادة 7 هذا التوجه، إذ تُلزم المواقع الإعلامية المستقلة بتوفيق أوضاعها القانونية خلال مهلة زمنية قصيرة لا تتجاوز ستة أشهر، دون تقديم ضمانات كافية أو تسهيلات إجرائية، ما يُفضي فعليًا إلى إغلاق العديد من المنصات القائمة. ويُعزز هذا الربط التعسفي بين شروط الترخيص ومحتوى النشر استهداف الأصوات المستقلة خارج الأطر الرسمية، ويقوّض التعددية الإعلامية، في انتهاك واضح لحرية التعبير والرأي التي تكفلها المواثيق الدولية.

توصيات تشريعية ومؤسسية لضمان حرية التعبير واستقلالية الإعلام:
من أجل توفير بيئة إعلامية حرة وتعددية في البحرين، بات من الضروري اعتماد إصلاحات قانونية ومؤسسية جذرية، تتماشى مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، وبالأخص المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. وتشمل هذه الإصلاحات ما يلي:

1) إلغاء المادة 69 من قانون الصحافة والإعلام الإلكتروني بالكامل، نظراً لما تشكله من تهديد مباشر لحرية التعبير، واستبدال العقوبات الجنائية بعقوبات مدنية متناسبة ومقيدة بحالات التشهير الشخصي، بما يمنع استخدامها لقمع الأصوات الناقدة.
2) الانتقال من نظام الترخيص المسبق إلى نظام الإخطار اللاحق فيما يتعلق بإنشاء المنصات والمواقع الإعلامية، لضمان استقلال وسائل الإعلام والحد من التدخلات الإدارية والتنفيذية غير المبررة.
3) وضع تعريفات قانونية ضيقة وواضحة للمفاهيم الفضفاضة مثل "خطاب الكراهية"، "الأمن الوطني"، و"المصلحة العامة"، لمنع إساءة استخدامها لتجريم الرأي والنقد السياسي المشروع، وضمان أن تكون النصوص القانونية محددة، ضرورية، ومتناسبة.
4) إعادة النظر في العقوبات المالية المفروضة على المخالفات الإعلامية وخفضها لتكون متناسبة مع متوسط الدخل الوطني، ومنع توظيفها كأداة ترهيب اقتصادي ضد الصحفيين والمؤسسات المستقلة.
5) استثناء المحتوى الشخصي المنشور على وسائل التواصل الاجتماعي من نطاق التنظيم العقابي، بما يضمن الحماية الكاملة للحق في التعبير الفردي ويمنع تجريم الآراء غير المرتبطة بالنشر المهني أو المؤسسي.
6) تعزيز الرقابة القضائية المستقلة والفعّالة على قرارات الحجب والمنع، وضمان خضوعها لمراجعة قضائية مسبقة أو لاحقة حقيقية، بما يكفل احترام مبدأ الفصل بين السلطات ويحمي حرية الوصول إلى المعلومات.
7) تأسيس هيئة وطنية مستقلة لحماية حرية الإعلام، تضم ممثلين من القضاء، والمجتمع المدني، والنقابات الصحفية، وتتمتع بصلاحيات رقابية فعلية للنظر في شكاوى التعدي على حرية التعبير، وتعمل على ضمان الشفافية والمساءلة.
8) ضمان الحماية القانونية للصحفيين والعاملين في وسائل الإعلام من الملاحقة التعسفية بسبب آرائهم أو أدائهم المهني، مع فرض التزام على المؤسسات الإعلامية باحترام استقلالية الصحفيين ومنع العقوبات الإدارية أو الفصل الجائر لأسباب تتعلق بحرية الرأي.
9) إنشاء صندوق وطني مستقل للدعم القانوني والمهني للصحفيين المستقلين، يوفّر المساعدة القانونية والمالية في حالات التعرض للملاحقة أو الضغوط السياسية، ويدعم استمرارية العمل الصحفي الحر والمسؤول.

تشكل هذه التوصيات الحد الأدنى لضمان توافق التشريعات الوطنية مع الالتزامات الحقوقية الدولية، وتمثل ركيزة لأي إصلاح حقيقي يُعيد الاعتبار لحرية التعبير، ويضع حدًا لاستخدام القانون كأداة للقمع، تمهيدًا لبناء فضاء عام ديمقراطي يحترم الكرامة الإنسانية وحقوق المواطنين.

الخاتمة: شرعنة القمع تحت غطاء الإصلاح
يمثّل قانون الصحافة والإعلام الإلكتروني البحريني لعام 2025 نموذجًا صارخًا لما يمكن تسميته بـ"القمع المُقنّن"، حيث تُغلَّف الانتهاكات والقيود بغلاف من الإصلاحات التشريعية الزائفة. فبينما تسوّق الحكومة هذا القانون كخطوة تقدمية، تكشف نصوصه عن استراتيجية ممنهجة لإحكام السيطرة على الفضاء الإعلامي والرقمي، من خلال منح صلاحيات مفرطة للسلطة التنفيذية، واعتماد نصوص قانونية فضفاضة تُسهّل ملاحقة النشطاء والصحفيين، في غياب الضمانات القضائية والرقابية الفاعلة.
لا يوفّر هذا القانون بيئة آمنة للعمل الإعلامي، ولا يُعزز حرية التعبير، بل يرسّخ ممارسات "القمع الناعم" التي تُقصي الأصوات المستقلة وتخضع الإعلام لرقابة بيروقراطية خانقة، خارج أي إطار للمساءلة أو الشفافية. إنه قانون لا يُعزز التعددية، بل يكرّس احتكار السلطة ويُفرغ الصحافة من دورها الرقابي الحيوي.

وفي ظل تنامي الوعي الحقوقي محليًا ودوليًا، لم يعد مقبولًا الترويج لإصلاحات شكلية لا تمس جوهر المشكلة. ما تحتاجه البحرين هو إصلاح جذري يُعيد الاعتبار لحرية التعبير باعتبارها حقًا دستوريًا والتزامًا دوليًا غير قابل للتفاوض. فحرية الصحافة ليست منحة تمنحها الدولة، بل هو خيار أخلاقي وقانوني وركيزة لأي نظام ديمقراطي يسعى إلى بناء مجتمع يقوم على المحاسبة والعدالة.

إن أي قانون يُجرّم النقد، ويُحصّن السلطة من المساءلة، لا يمكن أن يُعد إصلاحًا، بل يُشكل خرقًا سافرًا للمعايير الدولية، وانتكاسة خطيرة لحرية التعبير، ومحاولة جديدة لإعادة إنتاج القمع بصيغ أكثر تعقيدًا وخطورة.