ما الذي يثير السلطة في خطاب الشيخ عيسى قاسم؟
2013-05-21 - 5:59 م
مرآة البحرين (خاص): شيخ عيسى قاسم رجل دين (فقيه يحمل لقب آية الله، وفق المرتبة العلمية، المعمول بها في الحوزات) وصاحب خطاب وطني. صفته الوطنية تجعله صاحب موقف سياسي محلي وصفته الدينية تجعله ممتداً خارج محيطه المحلي، فالدين أوسع من الوطن، وهو أقدم من فكرة الوطن الحديثة (أرض وشعب وسيادة) والدين قد يجمع أوطانا عدة، لكنه قد يعجز عن أن يجمع وطناً واحداً. والخطاب الديني ليس مناقضاً للوطن، لكنه ليس متطابقا دوماً معه.
من هنا، فرجل الدين بهذا المعنى عادة ما يكون أوسع من الوطن، فشخصية رجل الدين، يتمد نفوذها خارج وطنها ويتمد مجال اهتمامها خارج وطنها أيضاً. وهذه ليست ميزة وليست مذمة، بقدر ما هي إشكالية، حلها يمكن أن يكون بأن يملك رجل الدين خطاباً وطنياً مشتركاً.
لا يمكن أن نتوقع من رجل الدين أن يصوغ كامل خطابه على مقياس وطني صرف، هناك مناطق في خطابه يعتبرها خصوصية دينية.
لقد سعت السلطة دوماً إلى التشكيك في خطاب الشيخ عيسى الوطني، وسعت بكامل أجهرتها (أجهزة العنف التي تحتكرها وأجهزة الإعلام المغلقة عليها) إلى أن تخرج خطاب الشيخ عيسى من حدوده الوطنية. أرادت له أن يتحول وفق منطقها الطائفي، بحيث تكون طائفته المستهدفة هي موضوعه، لا مواطنو دولته.
حاولت ذلك عبر استفزازه، وإهانة رموزه الدينية والتنكيل بطائفته وهدم موسساتها، ولم تنجح. وحاولت عبر صحفها الموالية، النيل الشخصي من اسمه وتجريده من مكانته الرمزية ولم تنجح، وحاولت أخيرا عبر انتهاك حرمة بيته، فتورطت أكثر. عصي شخصه وعصي خطابه. عصي على أن تهزمه وعصي على أن تورطه. فبقي خطابه الوطني عصي على السلطة.
الخطاب العصي على السلطة، ينطلق من ثوابت وطنية، ويذكرنا (الشيخ) بها في إحدى خطابه أيام السلامة الوطنية: "منذ سنوات والخطاب السياسي في هذا الجامع ثابت في أُسسه، واضح في معالمه، غير متردّد، وجاءت أحداث العالم العربي، وشعوبه من خلال معاناتها المرّة، وكان ما كان من ثورات وانتفاضات وتحرُّكات، وسقوط بعض الأنظمة وارتفاع حرارة الأحداث، والخطابُ هنا لم يتغيّر، وبقي الخطاب في أُسسه ومعالمه واحداً قبل الرابع عشر من فبراير وبعده، وأيام الدوار وبعدها وكانت المناداة ثابتة بإصلاح جدّي قادر على إيجاد مناخٍ من الرضى والتوافق المنقذ للوطن، والأخذ بالأسلوب السلمي في المطالبة لا غير"(1).
بكل عنف السلامة الوطنية، لم يتزحز شيء لا من خطاب الشيخ ولا من موقفه، على مستوى الخطاب، بقي ثابته هو نفسه، وعلى مستوى الموقف، بقي رأسه فداء عزته، وهذا ما أعلنه بوضوح منذ أول جمعة من أيام السلامة الوطنية "هذه دماؤنا، هذه رقابنا، هذه رؤوسنا فداءٌ لديننا وعزّتنا"(2).
أرادت السلطة أن تجعل منه مفاوضاً باسم طائفته مرة، ومرة أرادت أن تدفعه لحرب أهلية طائفية، ومرة أرادت أن تشغله بمقدسات طائفته، ومرة أرادت أن تلصق به تهمة الدعوة للعنف، ومرة أرادت أن تختلق له مخالفات قانونية بتهمة تهديد السلم الأهلي، وقبل ذلك حاولت مرات أن تستميله. لكنه بقي طوال تاريخه عصي على الاستمالة، وعصي على أن يكون ما تريد السلطة أن يكون، وعصي على الانشغال بحروب غيره. يقول الشيخ في خطاب له بعيد قانون الطورائ"أردنا ونريد للوطن أن يكون وطنَ سلم، وأرادوه ويريدونه أن يكون وطن حرب"(3).
أرداوا أن يجروه إلى العداوة السياسية، لكنه ظل متمترساً بثوابته في منطقة الخصام السياسي. في العدواة السياسية، تنزلق إلى الفجور في الخصومة، وإشعال الغرائز المتوحشة والكراهية، وتتجاوز كل الخطوط الحمراء، حتى انتهاك المقدسات وحرمة الغير، وصولاً إلى حافة الحرب الأهلية، باختصار أنت عدو. وفي الخصام السياسي، تبقى محتفظاً بالاختلاف في حدود تباين البرامج السياسية وتباين وجهات النظر وتفهم منطلقات المختلف، والاحتفاظ بأخلاقيات المنافسة.
بقي خطاب الشيخ عصي على العداوة السياسية، وكل ما أمعنت السلطة وشياطينها في العداوة وتضييق صدر الاختلاف السياسي، ذهب أكثر في رسم مسار الخصام السياسي، بإخراجه من ألغام الطائفية "ولكن صدر السياسة أضيق من أن يحتمل أهدأ الأساليب السلمية، ولم يعد أي أسلوب سلمي قابلاً للاعتراف أو معفوّاً من العقوبة"(4).
كان جهد السلطة طوال السنتين الماضيتين بالنسبة لخطاب شيخ عيسى قاسم، ينصب على استنهاض خطاب من جنس خطاب السلطة وشياطينها. ظل خطاب الشيخ طوال السنتين الماضيتين، ممانعاً في الاستجابة لها متعالياً على لعبتها. لم يبادلها اللعب على الأرضية نفسها، فظل مرة أخرى عصياً على الاستفزاز.
يتحدثون عنه باستعداء باستخدام قائمة العداوة (خائن، عميل إيراني، انقلابي، محرض على العنف، صفوي) يواجهه خطاب الشيخ "لا للإعلام المستهتر الفاحش البذيء الفتنة"(5). وفي مقابل مفرداتهم التي تقتل، نجد قائمة خطاب الشيخ لا تخرج عن حدود مفرادات (دستور، حوار جاد، استفتاء شعبي، وحدة وطنية، سلمية، مطالب شعبية، حل سياسي عادل، مجلس نيابي ذو صلاحيات كاملة لا يشاركه ولا يضايقه فيها مجلس الشورى).
اختتم الشيخ، عام المحنة2011 بتأكيد مساره الذي أريد له أن يتخلى عنه "مع أهمية المسار الحقوقي يبقى الفساد والخلل السياسي وغياب الدستور الموافق لإرادة الشعب الملبّي لطموحاته أساس المشكل، ومنبع الفساد كلّه. فلا تنازل عن الإصلاح في أي من المسارين ولا تراجع"(6).
لقد نجح لشيخ عيسى في تحدي إرادة السلطة، لم تنجح هي أبداً في استلاب خطابه الوطني، وهذا ما يثيرها فيه، فهل ينجح محبوه، في الذود عن خطاب رمزهم في شقه الوطني الذي ظل عصياً على السلطة؟
هوامش
(1)خطبة الجمعة (452) 16 جمادى الثاني 1432هـ 20 مايو 2011م.
(2) خطبة الجمعة (443) 12 ربيع الثاني 1432هـ 18 مارس 2011م
(3)خطبة الجمعة (456) 14 رجب 1432هـ 17 يونيو 2011م.
(4)خطبة الجمعة (452) 16 جمادى الثاني 1432هـ 20 مايو 2011م
(5)خطبة الجمعة (457) 21 رجب 1432هـ 24 يونيو 2011م.
(6)خطبة الجمعة (482) 20 محرم 1433هـ ـ 16 ديسمبر 2011م.