جمعة العاصمة: الحرية تقاوم رصاص الدكتاتورية
2012-09-08 - 9:26 ص
مرآة البحرين (خاص): تعود منامةُ إلى أهلها، أو هم يعودون إليها. يكتشف الناسُ عاصمتهم مجدداً بالملامسة والقُرب والإصرار على التّظاهر فيها. كلّما اقتربوا منها، ابتعدت عنهم كاسحةُ المَحْو والإفناء. إخلاءُ سكّانها الأصليين، وتحويلها إلى جغرافيا مسْبيّةٍ؛ لم يكن محض تسلسلٍ زمنيّ بريء. لا تعرف الأمكنةُ العريقةُ شيئاً عن المصادفات المفاجئة، ولا يدخلُ في حسابها الأثرُ العابرُ الذي يأتي عفْواً وساعةَ يغفو الإنسانُ فيرتكب الكارثة "غير المقصودة". كلّ شيءٍ يجري عليها هو هندسةٌ بفعل فاعل. بناءً أو هدْماً. والهندسة، بلا أدنى تردّد، عملٌ محفوفٌ بالأهداف والترصُّد الممنهج. هي، بالتّالي، عملٌ مؤدلج، مسيّسٌ، ويقعُ في صُلب التجهييز (الوجود) والإجهاز (العدم).
تضاريسٌ حيويّة، مثل السّواحل والأنهار والعُيون، لا تتراجعُ نحو الخلف بإرادتها المنفردة. طبيعيّةٌ صارمة، مثل النّخلةِ والقرية، لا تموتُ منكسرةً لأنّها – هكذا - فشلت في اختبار الحياة. فقط، القوّةُ المهندَّسة بالتّدمير تفعلُ ذلك.
الإفراغ المنظّمُ يبدو أحياناً وكأنه عملٌ فنيّ بهيج. السلطة تتولّى ترميم باب البحرين، كتحفة أو ديكور لنظامها المُحمَّل بموروث الغزو والاعتداء على وجود المواطنين الذين توافدوا نحو بقعتهم الأصليّة للتعبير عن مطالبهم الوطنيّة، كما فعل أجدادهم من قبل. على هذا النّحو، فإنّ النّظام لا مانع لديه من تجديد زخارف الهويّة المسلوبة، ما دامت قد استوت له – كما يظنّ - قوّة البطش التي يمنع بها المواطنين من الحضور الفعلي، وإظهار هويّاتهم الوطنيّة. وهو ما حصل في فعّاليات جمعة العاصمة.
لا يريد النّظام أن تكون العاصمة - كما كانت في الماضي - مضخّة للهويّة الوطنيّة الجامعة، لأنّ ذلك الطّريق المؤثر لإنضاج الانتقالات الدّيمقراطيّة في بنية المجتمع، وهو ما يخشاه النّظام الدّكتاتوري. من هنا، كان إخلاؤها من المواطنين، وإغراقها بالمصدّات السّكانيّة الغريبة والأمنيّة، وتسكين الهويّات الفرعيّة وربْطها بحزمةٍ من الولاءات والمُقيّدات، والتشدّد في إبعاد التّظاهرات الشّعبيّة عنها.
عبّر النّظام عن خوفه الجنوني من جمعة العاصمة بتنفيذ عمليّة إغلاق واسعة، قد تكون الأكبر في تاريخ البحرين. وهو أمرٌ تفاجأ منه مراقبون وأصابهم بالذّهول. لكن الحصار الواسع للعاصمة والشّوارع المؤديّة إليها؛ كان تعبيراً واضحاً عن الخشية "الوجوديّة" التي تعتري الدكتاتور حين يجد أنّ المواطنين قد اكتشفوا "نقطة الضّعف" القاتلة، وبدؤوا توجيه الضّربات إليها. لا ننسى أنّ هذا الاكتشاف كان سبباً مباشراً في اختطاف نبيل رجب من منزله وإبقائه رهينة حتّى الآن. والتهديدات التي أطلقها النّظام في أعقاب تظاهرات العاصمة هي جزءٌ من صراخات الألم، وغير مُستبعَد اضّطرار النّظام لاتخاذ إجراءاتٍ "محدودة" ضد جمعيّات المعارضة، بغية التخفيف من الألم الحاصل، والتّلويح بتهديداتٍ أقسى في حال إعادة الكَرّة. والجمعيّات، كما يبدو، ليست في وارد الالتباس في قراءة الأحداث والتّطورات الجارية، ومن غير المحتمل أن تخضع أو تميلَ لتحذيرات النّظام، طالما أنّها قَوِيت أكثر من مرّة أمام إغراءاته الثّقيلة، خاصةً وأنّ الحراك الشّعبي لازال يحتفظ بوتيرةٍ ثوريّة ناهضة. وهذا يعني، أن النّظام ليس وحده منْ يشعرُ بالتّحدي بعد تاريخ السّابع من سبتمبر.
وزير العدل - المطلوب بتهم التحريض وإذاعة الأكاذيب – مُعجَب بأداء الأدوار الهابطة. في تعليقه على جمعة العاصمة؛ يستعيرُ الوزيرُ من وزارة الدّاخليّة الوقاحةَ الصّريحة، ومن وزيرة شؤون الإعلام الخطابَ الكذوب. يعلمُ وزير العدل، أنّ "دفْع تفاهماته السّياسيّة" لا يكون وسْط غابة الشّر التي يخيّمُ فيها. عليه، أولاً، أنْ يغادر خارج الغابة، وبعدها سيكون كلامه قابلاً للمداولة والاقتباس المفيد. عدا ذلك، فالنّظامُ لازال يعاني أمراضه فوق سرير الغيبوبة. وحين يصحو قليلاً، فإنه يخبط خبط عشواء، ويُشعل جنونه في كلّ الاتجاهات. والمجنونُ، مثل الغائب عن الوعي، لا يحصدُ إلا المرارة، أو التمنيّات العسيرة.