مصيدة الستي سنتر: حكاية خديجة
2012-06-04 - 9:35 ص
مرآة البحرين (خاص): كان يوم الثالث والعشرين من سبتمبر 2011، بعد ثلاثة أشهر من إنهاء حالة السلامة الوطنية، وكان الوطن ما زال يعيش تحت آثار تلك الفترة، التي أمسك فيها العسكر كلَّ مفاصل الحياة في الجزيرة الصغيرة. قبلها بأيام أعلن ائتلاف الرابع عشر من فبراير عزمه العودة لميدان الشهداء "دوار اللؤلؤة سابقًا"، محدِّدًا عدة محاور للانطلاق. أحد أهم محاوره هو مجمع السيتي سنتر، حيث كان على المشاركين التأهب لحين إعلان اللحظة الحاسمة للانطلاق للميدان. يومها لم يكن يتوجب على المنطلقين من تلك النقطة إظهار أي تحرّكٍ مُريب، كان عليهم أن يتوجهوا للمجمّع، يجلسوا بهدوء في مطاعمه، أو يتجولوا في محلّاته المختلفة، وحين يُعلن عن وقت الانطلاق يتوجهون بهدوء للبوابات المختلفة منطلقين نحو الميدان.
ذلك النهار حمل سيناريو آخر، لم يكن مخططًا له، الجموع التي وُجدت بالمجمع لم تلبث أن خرجت بمسيرة احتجاجية داخل أزقته قبل أن تتوجه للبوابات. العساكر الذين كانوا على علمٍ بذلك تربصوا بهم، وأفشلوا خطتهم. الروايات اختلفت، أحد العاملين بالمجمع قال إنَّ المشاركين اجتمعوا وتوجّهوا للبوابات فوجدوها مغلقة، فيما قال أحد المشاركين إنّهم أرادوا التجمع فأخذوا دورتين داخل المجمّع ليلتحق بهم من يريد، وحين توجّهوا للبوابات كانت مُغلقة. الحكايات المختلفة كثيرة، لكنّها تجتمع حول وجعٍ وحيد، كان ذلك اليوم الذي أُذلّت فيه المرأة البحرينية. أكوام من النساء مُلقاة فوق بعضها على قارعة الطريق.
المصيدة
خديجة لم تكن سوى إحدى النساء اللاتي أرسلهن القدر ليكنَّ على موعدٍ مع القيد، تقول: "بعد انتهاء المسيرة، أردنا جميعًا الخروج من المجمّع إلا أنّ الأبواب جميعها أُغلقت، حُوصرنا، لم نجد مخرجًا نلتجئ إليه، أخذنا ندور في حلقاتٍ مُفرغة، تساءلنا بريبة أين نذهب، شككنا بأنّ الأمر غير طبيعي، قلت لأخواتي "الوضع مُخيف تعرفون أنّنا بمصيدة لا مفرَّ منها"، الخوف الذي سكنهم في ذلك الوقت، جعلهم يمشون على غير هدى، فقط يبحثون عن منفذ، مكان يعبرون منه للأمان، تُكمل: "بعد فترة سمعنا أنّ إحدى البوّابات فُتحت، كانت تلك البوّابة الثانية، الكل توجه نحوها، أردنا أن نخرج فقط، وصلنا وهناك كانت قوّات الشغب، باغتونا من كلِّ الجهات، من داخل المجمّع، ومواقف السيارات، كانوا بأعداد كبيرة، يصرخون بأصواتٍ مُرعبة، تعالت الأصوات، كانوا يُرددون: "أمسكوهم"، أخذنا نجري لا نعرف أين نذهب، همُّنا أن نصل لسيارتنا فقط، لكن كيف ونحن متفرقات، لم أجد أخواتي، ولا بنات أختي، ولا صديقتي، كنت أجهل ما علي فعله، فقط كنت أجري، وأنا ألتفت بكل الاتجاهات، لعلي أجد إحداهن، وكانت قوّات الشغب تجري خلفنا، تتعالى صرخاتهم: "ركزوا على النساء، اعتقلوا النساء"، والجميع يجري في كل اتجاه، وجدت نفسي بالطابق الثاني، أو الثالث ربما، لم أعرف أين أنا، لكنني وجدت أخواتي وبنات أختي معي في نفس الطابق، جريت نحوهم، أمسكت ابنة اختي من يدها بقوّة، كنت خائفة أن ننفصل من جديد".
الخديعة
ليس من الهيّن أن تكون مُلاحقًا كطريدة، يُصفّق حولك آخرون بتشفٍّ مرير، يهتفون للعسكر وكأنّهم في معركة من أجل التاريخ. تُكمل: " سمِعنا أصواتًا تطلب منا اللجوء للسيارات، فأخذنا نبحث عن سيارة نحتمي بها، وجدنا واحدة بها أجانب، طلبنا منهم أن يسمحوا لنا أن نركب معهم لكنّهم رفضوا، فأخذنا نبحث مجددًا، وإذا بامراة تقول لنا "ركبوا سيارتي"، ركبنا معها، كانت معها ابنتها، شكرناها وطلبنا منها أن تُخرجنا من المجمّع، قالت: أين تريدون أن آخذكن؟ قلنا لها لا يهم المهم أخرجينا من المجمع، قالت: أخاف عليكن، قلنا حسنا خذينا إلى مجمع العالي قالت: ولكن أنا ذاهبة للمحرق، قلنا لها: نذهب معك، ونحن نتصرف بعد ذلك، قالت: لا أخاف عليكن، أحسست أنها تُماطل، لم يكن مجرد إحساس فقد كانت تُماطل فعلًا، حتى وصلت قوّات الشغب، طلبوا منها بطاقتها الشخصية، ثم أمروها بالخروج لما عرفوا أنها من المحرق، ولم يسألوا عنا، لكنها تطوّعت بإخبارهم، قالت: هنَّ لسنا معي وأنا لا أعرفهن، أوقفونا عند غرفة السلّم، ثم أتوا بمجموعة ثانية وثالثة، كلّنا من النساء، أمرونا أن ننبطح على الأرض. كانوا يشتموننا بألفاظ بذيئة. أُلقينا على الأرض وقُيّدت أيدينا وراء ظهورنا. بعض الشرطيات جلسن على ظهورنا، وهن يضربننا بالهروات على رؤوسنا، وينعتننا بأبشع الألفاظ، وأقذرها. إلى جانبي أُلقيت ابنة أختي، كانت صغيرة السن، وجدوا عندها هاتفها النقال فأخذوه، وحطّموه، وأخذوا يضربونها ويركلونها بأرجلهم على رأسها".
بداية التعذيب
التفاصيل التي لا تُمحى، تبقى عالقةً بالذاكرة للأبد، هكذا يُصبح ما حدث حكايةً لا تُنسى. تستكمل خديجة التفاصيل فتقول: "بقينا على هذا الحال فترةً من الزمن، مُمدّدين على الأرض، مكوَّماتٍ فوق بعضِنا، جاءوا بعدها، أوقفونا في صف، طلبوا منا أن نشتم الإمام الخميني، والسيد نصر الله، ونمدح ونُعظّم رموز السلطة. كانوا طوال الوقت يشتموننا: بنات المُتعة، بنات الدوّار، كُنتنَّ تتمتعنَّ بالدوّار. هذا فقط بعضُ ما كانوا يقذفوننا به، الأكثر مرارةً من ذلك أن الشرطيات خلعن أحجبة بعض الفتيات، وعندما اعترضن، قالوا لهن: هل تخافون على شرفكن؟ وهل لديكن شرف؟ إن لم تسكتن جعلنا جميع قوّات الشغب يعتدون عليكن. كنّا نحاول إلباسهن أحجبتهن، لكنَّ ذلك كان صعبًا، فنحن مُقيّدات الأيدي مثلهن تمامًا. بعدها أدخلونا غرفة السُلّم وكانوا يصوّرون كل شيء، سألونا عن أسمائنا وإن كُنّا نعمل وأين نعمل، وبعد ذالك أنزلونا إلى الشارع.
كانت مجموعة من الباصات بانتظارنا، أركبونا فيها، وفي الطريق طلبوا منّا أن نُنشد النشيد الملكي، ونشتم الإمام الخميني، وكُنّا نُضرَب عندما نرفض. كان الوقت يقترب من الغروب عند خروجنا من المجمّع. ربما المسافة لم تكن طويلة، إلا أنّنا شعرنا أنّها طويلةٌ جدًا، ربما ساعات، من هول ما لقينا من إهانة وشتم وضرب وتعرّيض. وصلنا مركز المعارض، أدخلونا إلى الطابق الثاني، أجلسونا بصالة المركز، مكانٌ صغير لا يتّسع لنا، رأيتُ صديقتي جالسةً هُناك، مُكبّلة اليدين، كنت أظنهااستطاعت الهرب!!
في المركز
كان القيد مُحكمًا على أيديهن: "لم نعُد نحتمل الألم" لكنَّ الشرطة أصروا على عدم إزالة القيد. بعد فترة وجيزة أمرهم الضابط بإزالتها، أدخلوهن لغُرفة بها مُصوِّر، وأجبروهن على إمساك ورقة كُتب عليها أسماؤهن، وأرقامهن الشخصية وصوروهن. تقول: "طلبنا منهم أن نُصلّي، أحدهم سمح لنا، لكنَّ البقية لم يسمحوا، قالوا لم يعد هناك وقت، صلوا في وقتٍ لاحق"، تُكمل: "بعد أن صوّرونا جميعا، أوقفونا فوق درجات السُلّم، ووُجّهنا مُقابل الجدار، كلُّ من ينزل أو يصعد يقوم بضربنا وشتمنا، بقينا على هذا الوضع مُدّةً ليست بالقليلة، كُنّا عاجزاتٍ عن تحريك وجوهنا.
ركبنا باصا ونحن لا نعرف إلى أين يأخذوننا، وماذا سيفعلون بنا. توقّف الباص، أنزلونا، قرأتُ لافتةً مُعلّقة على المبنى، كُتب عليها: "مركز النعيم"، أدخلونا لمكانٍ قذر صغير وله رائحة كريهة. أدخلونا جميعاً في غرفةٍ واحدة، كانت غرفةً صغيرة قذرة، غير مفروشة، وبها مكيّفٌ واحد فقط، وغير صالح للاستخدام. أربعة وأربعون امرأة في غرفةٍ صغيرة، لا تتّسع لنا، وغير مكيّفة، وكان الفصل مازال صيفا صيفًا. أمرونا أن نجلس على الأرض الإسمنتية القذرة.
السيناريو، يستهزئون بنا، ويشتموننا، ويسمعوننا أسوأ الألفاظ، بالإضافة للضرب. لم يكن هذا المكان يختلف عن الأماكن الأخرى، حتى أنَّ الأسئلة مُتشابهة، فقد أعادوا سؤالنا عن أسمائنا وأرقامنا الشخصية، وإن كُنّا نعمل، تمامًا كما فعلوا في مركز المعارض. بعد الانتهاء من تدوين معلوماتنا، أمرونا بالجلوس جميعًا في نهاية الغُرفة.
شَجَاعة وعِناد
كانت الحرب النفسية التي مارسوها ضدَّنا بشعة. أرادوا أن ننهار، أن نبكي، لكنّنا على العكس من ذلك، كُنّا نقتنص الفُرص لنضحك، ونُشجّع بعضنا. استفزّهم هذا الأمر، قالوا لنا: بعد كل الذي فعلناه تضحكن؟!! لو كُنّا مكانكم لبكينا. إحداهُن قالت كلامًا مُضحكًا وهي تُحاول أن تُدافع عن الحكومة: الحكومة رصفت لكم الشوارع، فماذا تريدون غير ذلك؟ كانوا يستغلّون الفُرص لإلقاء مُعلّقات المدح والتمجيد للحكومة ورموزها، لكننا كنّا ننظر لبعضنا ونضحك بصمتٍ في داخلِنا، وما أن يتركونا وحدنا حتى ننفجر ضحكًا، محاولاتٍ أن نُحوّل ما يفعلونه بنا إلى عملية تشجيعٍ مستمرّة لنتمكن من احتمال كل ذلك.
بعد فترةٍ ليست بالقصيرة جاءت ضابطة، كانوا ينادونها سيدي، طلبت منهم أن يُفتشونا، بدأوا بتفتيشنا، أخذوا التليفونات من عندنا، وكذلك حقائب اليد، وعندما جاء دور فتاةٍ صغيرة السن، قالت لهن: لا داعي لتفتيشي، خذي، هذا كل ما عندي، علم البحرين، وصورة لشهيد العيد الذي قتلتموه!!. كانت شُجاعة، ولم تخشاهم. خفنا عليها كثيرًا، ضربوها أمامنا، ثم أخذوها لخارج الغرفة. لم نعلم إلى أين، لكنّهم أعادوها بعد فترة. كانت قد ضُربت بقسوة، ولم يكتفوا بذلك، بل أخذوا بضربها أمامنا على وجهها، وهم يحاولون إجبارها على قبول ما يقولون، لكنّها كانت مُصرّةً على موقفها، وماضيةً في مُعاندتهم فيما يريدون.
تركونا بعد أن أُنهِكوا، فاستغلّينا الفرصة وتحدّثنا معها، طلبنا منها ألا تردَّ عليهم، وألا تُحاججهم، من الأفضل لها وللجميع أن تلزم الصمت، فالكلام معهم لا يؤدي إلا لمزيدٍ من الأذى. كانت عنيدةً معهم، لكنّها مطيعةٌ معنا، لذا فقد استجابت لطلبنا، فتركوها"
المصير المجهول
الخوف سيد المجهول. هذا ما كان يَسكُنهن، شيءٌ من الخوف، وشيءٌ من المجهول، وكثيرٌ من الانتظار. وسط العتمة تتساوى الدقائق، لا يدركنَ الليل من النهار. تُكمل خديجة: "بعد حين نادوا مجموعةً منّا تتكون من أربع فتيات، لم نعرف إلى أين، كُنّا نتساءل إلى أين ذهبوا بهن، لم نتمكّن من معرفة ذلك، لكنّهم بعد مدة نادوا على أخريات، وأخريات من جديد، وكُنّا نتساءل فقط عن المكان الذي يذهبن إليه. أخواتي كنَّ من المجموعات التي ذهبت، كنتُ خائفةً جدًا، مرعوبةٌ أجهل ما يفعلون بهن، ولمَ لستُ معهن.
أخذونا لممرٍ به غرفتان، أمرونا بالانتظار في الممر. كان هنالك مجموعة من الشباب يقفون مواجهين للجدار، تظهر على أحدهم آثار الضرب، رأيت عينه تنزف دمًا، وبدأ يتقيّأ ما في معدته أمامنا. حين أدار وجهه عرفته، هو ذات الشاب الذي شاهدناه بمواقف السيارات بالمجمّع، والعساكر يضربونه بكلِّ قسوة، وكان ينزف حينها. بعد ذلك أدخلونا الغرفة، أخذوا عينة من لُعابنا، وطلبوا أن ننتظر مجددًا بالممر. انتظرنا فترةً طويلة، حتى لم تعد أرجلنا تحملنا من الألم. من جديد، أدخلونا لغرفةٍ أُخرى بها شرطي، أخذ بصماتنا، ثم أعادونا للغرفة الأولى.
&&qut2&& |
بعد فترة جاءت الضابطة (وهي من العائلة الحاكمة) أخذت تُنادينا واحدةً تلو الأُخرى، تسأل عن أسمائنا، وأرقامنا الشخصية، وأين تمّ اعتقالنا، وفي أيِّ طابقٍ من المجمّع تمَّ ذلك. بعد ذلك أمرت الشرطيات بفصل القاصرات عن باقي المجموعة، قالت إنها ستُفرج عنهن. فرِحنا كثيرًا، لكنَّ ابنةَ أختي لم تشأ أن تذهب دوننا، أقنعتها أنَّ المُهم هو أن تخرج. كنتُ خائفةً عليها، فهي صغيرة ولا تحتمل الضرب"
لحظات الزنزانة
الزمن لا يتوقف عن الدوران أبدًا، لكنَّ الوقت لم يكن يمضي بالنسبة لخديجة وزميلات الزنزانة. مضى وقتٌ طويل، طويلٌ جدًا، دون طعامٍ أو ماء، ودون قضاء حاجاتهن الطبيعية. طلبن من المسؤول أن يُصلين على الأقل، فسمح لهُن، لكن كيف ذلك وهنَّ لم يتوضأن، ولا يعرفن اتجاه القبلة. طلبنَ من المسؤول أن يسمح لهن بالذهاب لدورة المياه. أمر الشرطيات بأخذهن، واحدةً بعد الأخرى، نفّذن ما أمر به، لكنّهن أمرنهن بعدم إغلاق الباب، فرفضن ذلك، وعُدن للغرفة.
بعد مدةٍ طويلة قسّموهن لمجموعات، أخذوا أول مجموعة، وبقيت الأخريات ينتظرن بقلق، إلى أين الآن؟ وما الذي سيحدث، لا أحد يعلم. تقول: "سألناهم عن وجهة المجموعة فلم يجيبوا، سألناهم أيضًا عن الفتيات القاصرات ولمَ لم يتم الإفراج عنهن، فلم يجيبوا أيضًا، مرَّ بعض الوقت قبل أن يُوقفونا في صف، ويُخرجونا من المركز، ركبنا الباص، كانت الساعة تقترب من الثالثة فجرًا، عرفنا ذلك من الساعة المُثبّتة في مقدمة الباص.
المسافة التي قطعناها في الطريق بدت طويلةً جدًا، هكذا خُيّل لي من شدة الإرهاق والتعب. وصلنا إلى مبنى التحقيقات الجنائية، هذا ما كُتب على واجهة المبنى. في غُرفٍ صغيرةٍ بقينا، الكراسي تتوزّع على ثلاث جهات، والكاميرا تُراقب وترصد كلَّ شيء. وزّعونا على الغرف، فصلوني عن أخواتي وواحدة من بنات أختي، أمّا الثانية -وهي الصُغرى- بقيت معي"
التحقيق
في غرفة صغيرة، برفقة شرطية وحيدة، الساعة الثالثة فجرًا، دون ماءٍ، أو طعام، ودون قضاء حاجاتهن الطبيعية، لساعاتٍ وساعات؛ لم يخلُ الأمر من الأفكار، الكثير منها، والكثير من الأسئلة الموجعة: "هل سيُعذّبوننا؟ ما هو الأسلوب الذي سيستخدمونه لتعذيبنا؟ ماذا يجب أن نقول في التحقيق؟ ما الذي يتوجّب علينا فعله؟" الكثير من الأسئلة كانت تسيطر على أفكارهن. تُكمل خديجة تفاصيل ما حدث: "بينما نحن ننتظر، جاءت شرطية، سألتنا إن كُنّا بحاجة للذهاب لدورة المياه، فأجبنا جميعًا بصوتٍ واحد كأطفال المدرسة، نعم! ، كما طلبنا منها أن تسمح لنا بالصلاة. أرجعتنا للغرفة وقالت صلوا بسرعة، كنتُ أحاول ألا أبين لابنة أختي خوفي وقلقي، قلتُ لها أنتِ صغيرة، سيُفَرج عنك حتمًا.
بعد مدّةٍ نادوا علي. كنتُ وحدي، لا أُخفي الأمر، كنتُ مُضطربةً قلقة، لا أعرف ما سيجري، وكان التعب والإرهاق قد أخذا مني مأخذهما. ذهبتُ مع الشرطية للطابق الثالث، أدخلتني الغرفة وحدي، بقيت معي لفترة، ثم ذهبت. الوحدة والانتظار غذّيا خوفي المُتصاعد. كان الانتظار وحده عذابًا كافيًا. لو كنتُ مع الأخريات ربما كان حالي أفضل.
لا أعلم كم بقيتُ من الوقت في تلكَ الغرفة، لكنَّ الفجر حل. عرفتُ ذلك من النافذة المُطلّة على الشارع. نادوني بعد بُرهة، أدخلوني على المُحقّق، سألني عدّة أسئلة، لم يأخذ الأمر وقتًا طويلًا، ربّما كانت ربع ساعة فقط. طلب مني التوقيع على أوراق المحضر، فطلبتُ منه أن يسمح لي بقراءتها قبل التوقيع فوافق. حاولت قراءتها، لم أستطع، كنتُ متعبةً جدًّا، أخذت الكلمات تتداخل مع بعضها. مع فقدي للتركيز اضُطررت للتوقيع على شيءٍ لا أعرفه. بعد توقيعي طلب مني الخروج. خرجتُ من الغرفة، كانت الشرطية واقفةً هناك، أخذتني لغرفةٍ ثانية، وأيضًا كنتُ لوحدي فيها. بعد فترةٍ من الزمن جاءت شرطيةٌ أُخرى ومعها ابنة أختي، حمدت ربي أنّها بخير، سألتها عن أختها الصغرى فقالت: "لا أعلم ألم تكن معك؟"، قلت لها: أجل في البداية فقط. طلبوني مجدّدًا للتحقيق، تساءلت في نفسي إلى أين الآن؟
مع المحاميتين
بدأ توافد الفتيات بعد التحقيق، بقينا على هذا الحال حتى الثانية عشرة ظهرًا. بعد ذلك أنزلونا إلى بهو المبنى، هُناك التقينا بالمحاميتين ريم خلف وحنان العرادي، ومعهما بدأت حققونا الطبيعة تنفرج، أخذونا في مجموعاتٍ للحمّام. بعد أن ذهبنا للحمام نزلنا إلى البهو، كان في البهو جهاز لبيع الحلويات والماء، طلبنا من الشرطيات أن نشتري ماءً من الجهاز. كان لدي مئتا فلس، وكان ذلك المبلغ لا يكفي إلا لقنينةٍ واحدة فقط، ونحن مجموعة كبيرة، مع ذلك اشتريت القارورة، واشتركنا فيها جميعًا.
من يعانين من الأمراض أركبوهن في باص لوحدهن، والسليمات في باصٍ آخر، عند الساعة الواحدة انطلقنا من التحقيقات الجنائية، أخذونا إلى مستشفى القلعة لعمل الفحوصات، طلبوا منا الجلوس في الممر، انتظرنا فترة، بعد ذلك أدخلونا غرفةً بها سرير واحد وحمام. بعد ذلك أدخلونا على الطبيبة، كل واحدة على حدة. جاء دوري، سألتني مم أشكو، فقلتُ لها أنا مصابة بفقر الدم المنجلي المعروف بالسكلر، فأخذت عينةً من الدم والبول، وأيضًا قاست لي ضغط الدم ونسبة السكر، وسألتني عن الطبيب الذي يعالجني، وبعد ذلك طلبت مني الانتظار في الغرفة، وهكذا حتى سألونا كلنا. كنا نعاني من أمراض مختلفة، البعض مصاب بالسكلر مثلي أنا وأختي، والبعض بضغط الدم، وواحدة منا كانت حبلى في شهرها الثالث. انتظرنا فترةً طويلة، بعدها أخذونا إلى مكانٍ آخر ليعايننا طبيب، جلسنا على الكراسي، كنّا منهكات، بلا نوم، عطاشى دون ماء، جوعى دون طعام.
طال انتظارنا لساعات ولم يدخلونا على الطبيب، أخذ منّا التعب مأخذه، أصبحنا عاجزات عن تحمّل البقاء مستيقظات أكثر من ذلك، تصلّبت أجسادنا. بعض المعتقلات قرّرن إراحة أجسادهن على الأرض، ربّما يسرقن بعض الوقت للنوم، حتى الشرطيات بدأن بالتأفّف من التعب. بعد ذلك أرجعونا إلى الغرفة الأولى، لم يأتِ الطبيب ليرانا، فجاءت الطبيبة المناوبة، اطلعت على فحوصاتنا، سألتنا بعض الأسئلة عن نوعية الأدوية التي نأخذها، وكتبت لنا وصفةً بها.
طلبنا من الشرطية بعضاً من الماء والطعام.وبعد مفاوضات دخلت شرطية، تحمل بعض الطعام والعصير، قالت: كلوا هذا الطعام وزعوه بينكم.كنّا جوعى حقًا، لم نأكل ليومين، كان التعب قد أنهكنا، عجزنا عن إكمال طعامنا رغم الجوع. عند التاسعة والنصف مساءً أركبونا الباص، سألناهم إلى أين؟ قالوا للتوقيف بمركز مدينة عيسى، أخذ منّا الطريق ساعةً من الزمن إلى أن وصلنا
السجينات
في مركز شرطة مدينة عيسى سار بنا الباص في مواقف السيارات، هناك رأينا المعتقلات القاصرات اللاتي كنَّ معنا، استلمت الشرطيات ملفاتنا، قمن بمناداتنا واحدة تلو الأخرى، أخذن ما معنا من حلي ونقود، وضعوها في كيس، طلبن منّا أن نوقع على ورقة بحصيلة ما استلمن منّا.
سألتني إحدى الشرطيات "هل أخذوا ما عندك من أغراض؟" قلتُ لها: "أجل" قالت: "إذن تعالي معي" وأخذتني إلى الخارج، ودخلنا لغرفة وكانّها حماّم لكنّها بدون أبواب، مجرد ستارة، طلبت مني أن أخلع أخلع ملابسي كلّها، سالتها مستهجنة: كلّها؟!! لماذا؟، صرخت بي: "نفذي دون سؤال وإلا سأقوم بخلعها لكِ. كان موقفًا صعبًا، مُذلًا للدرجة التي لم أستطع فعله وأنا مفتوحة العينين. كنتُ خجلةً من نفسي، خنقتني العَبرة، لكنّي تماسكت. لم أجد بُدًُّا من التظاهر بصلابتي، كان ذلك أفضل من أن تراني ضعيفةً مُنكسرة. خلعتُ ملابسي، فتشتني، كلَّ جزءٍ في جسدي، كان الأمر حاطًّا بالكرامة لا أكثر، تلمّست أجزاء جسدي، بعد أن انتهت من التفتيش أعدتُ لبس ملابسي وعباءتي وحجابي. أعادتني للمبنى، أخذن يسألننا عدة أسئلة، أسماؤنا، مكان عملنا، المرض الذي نشكو منه، أخذن الأدوية التي وصفتها لنا طبيبة القلعة، ثم وقعنا على أوراق لا نعلم محتواها.
أدخلونا بعدها للممر، أمرونا أن نبحث لنا عن أسرّة، في أي غرفة من الغرف، هناك كانت ابنة اختي، وصديقتي. بعد مدّة جاءت شرطية، أخذتنا للأعلى، كان المكان مُظلمًا، مُوحشًا، عبارة عن ممر به عدّة غرف، نزيلاته جميعهن من الآسيويات، عدا اثنتين، إحداهما بحرينية والأخرى من جنسية خليجية. دخلنا الغرفة رقم سبعة أو ربّما هي عنبر رقم سبعة، اختارت كلٌٌّ منّا سريرًا، كانت الشراشف مُتسخة، والأغطية كذلك، نزلنا مجددًا، طلبنا من الشرطيات شراشف نظيفة وأغطية، وطلبت شامبو وصابون لأستحم.
لم نصعد للأعلى، بقينا فترة انتظار الشراشف مع بقيّة المعتقلات، كانت الصدفة الموجعة أنّ أمَّ الشاب الذي رأيناه يُعذب بمواقف السيارات متورّم الوجه نازف العينين، كانت معنا. أخبرتنا أنها استطاعت الهرب، لكن لما رأتهم يضربون ابنها لم تستطع المضي، عادت من أجله، ضربوها، ومنعوها من الاقتراب منه.
لم أحتمل ليلتها أن أنام وأنا لم أستحمَّ بعد. يومان مضيا دون ذلك، لم أحتمل الأمر أكثر، كان شعوري بأنّي وسخة يمنعني من النوم رغم التعب، أصررتُ على الاستحمام، طلبتُ منهن عدّة مرات أن يعطينني شامبو وصابون، لكنهن تجاهلن طلبي المتكرر، فنزلتُ للأسفل، طلبتُ من المعتقلات أن يعطينني إن كان معهن. وهكذا استحممت في غرفة المعتقلات بالأسفل، لأنّ الحمام بالأعلى مُشترك، غسلتُ ملابسي، ولأني لا أملك غيرها في ذاك المكان اضُطررت للبس العباءة حتى تجفَّ ملابسي، صعدتُ لأعلى.
في ذهابي لا بُدَّ أن أمرَّ على الشرطيات، عندما رأينني صرخن في وجهي ماذا تفعلين؟ لمَ تصعدين وتنزلين باستمرار؟ أتعتقدين نفسك نزيلة فندق؟ لم أُعرهم اهتمام، واصلتُ الصعود للأعلى. أردتُ أن أنام بعد كلِّ هذا العناء، لكن كيف أُقنع قلبي المشتاق بالنوم؟ كلُّ ما بي مُنشغلٌ في التفكير في ما جرى، وفي ابني. تذكّرتُ أني لأول مرة مُنذ ولادته أبتعد عنه، كيف سينام حبيبي وهو لا تُغمض عيناه إلا على ذراعي؟ كنت أتوجّعُ كلَّما سال الحليب من صدري، عرفتُ أن ابني جائع، وبحاجة لحليبي، هذا الصغير لا يقبل الرضاعة الصناعية، كيف سيسد جوعه؟ تذكرت أبي، خشيت عليه، فنحنُ ثلاث بناتٍ في المعتقل، وحفيدتان. مسكينٌ أبي، كيف هُم إخوتي؟ وأخواتي؟ وزوجي؟ ما حالة زوجي الآن؟ لكنَّ أبي وابني سيطرا في تلكَ الليلة على أفكاري.
وسط فوضى الحواس غبتُ عن الوعي، استسلمتُ للنوم، لم أكن لأقوى على معاندته أكثر، لا أعرف كم مضى من الوقت، لم يبدُ طويلًا. صحوتُ على صوت الشرطيات، يعلنَّ عبر مُكبّر الصوت عن موعد الإفطار، كان الوقتُ ما يزال فجرًا. كنّا جالساتٍ في قُبالة نافذة المطبخ الذي نفد فطوره قبل أن نصل إليه، وإذا برائحة مسيل الدموع تصلُ لنا، وسمعنا صوت الطلقات، قلنا لم يتغير شيء، المسيلات وراءنا حتى بالمعتقل!
جافاني النوم
عُدنا لغرفتنا، كنّا متعبات، أردنا أن ننام، دخلتُ سريري مُحاولةً النوم، لكن لم أستطع، عادت الأفكار تتزاحمُ في رأسي، أويتُ لسريري في محاولةٍ مني للنوم، لم أستطع. في تلك الليلة جافاني النوم، كانت الأفكار تأخذني للبعيد، إلى أطراف سرير طفلي. أتساءل أنائمٌ الآن أم مستيقظ؟ هل أرضعوه أم جائع؟ أتعتني به أخواتي الآن أم أمّ زوجي؟ هل يبكي أم يلعب؟ كانت الأسئلة تتهادى في رأسي. في تلك الليلة لم تُفارق صورتُه ناظري، وإذ كنتُ أغيبُ شيئًا فشيئًا وسط أسئلتي، إذا بي أسمعُ صوت الشرطية تُنادي عبر مُكبّر الصوت "تفقّد الأسماء، تفقّد الأسماء". قُمنا جميعًا، كنّا نتساءل ماذا يعني تفقّد الأسماء؟! خرجنا من الغرفة، وجدنا الجميع وقوفًا عند أبواب غرفهم، جاءت الشرطية، أخذت تقرأ الأسماء. كلُّ من يتلى اسمها تدخل لغرفتها. أصبح هذا الأمر مع الوقت روتينُا، يحدث كلَّ يومٍ عند السابعة.
حقوقنا وواجباتنا
ما إن تمددنا مجددًا على الأسرة، حتى سمعنا أسماءنا من جديد، هذه المرّة كنا نحن البحرينيات فقط، بالتحديد معتقلات السيتي سنتر، نزلنا للطابق الأرضي، قالوا إن هناك اجتماعًا في المطبخ، توجّهنا لهناك، جاءت الأخصائية الاجتماعية، برفقة شرطيتين، ألقت علينا محاضرة عن الامتثال لأوامر الشرطيات، وهددننا بأنّ أيَّ واحدةٍ تعترض على شرطية ستقوم الشرطية برفع قضية ضدّها، وسيتسبب ذلك في سجنها أكثر من المدّة الأصلية. أخبرننا أيضًا بأنّ لنا الحق بالاتصال لأهلنا مرةً واحدة في اليوم لمدّة ثلاث دقائق فقط، ولنا الحقُّ بأن نخرج للتشمس مرّتين باليوم، تلكَ كانت حقوقُنا. أما واجباتنا فكانت تنظيف المطبخ، والحمّامات، وغسل الأواني وإخراج القمامة، ويُخصّص يومٌ لكلِّ غرفة يكون على قاطناتها مسؤولية التنظيف، كما أكّدوا على أهمية عدم الاعتراض على أيَِّ شيء.
بعد انتهاء حديثهم، استأذنا طرح بعض الأسئلة، سألتهن عن ابنة أختي، وأفصحتُ عن رغبتي في رؤيتها والاطمئنان عليها، قالت هي ومن معها بخير، ويعاملن معاملةً حسنة، أما رؤيتهن فلا يمكن . سألنا عن التُهم الموجّهة لنا، والمدّة التي سنقضيها في السجن، لم يكن هناك جواب.
فرحنا كثيرًا بالسماح لنا بالاتصال، كنّا بحاجة للاتصال بأهلنا، كانوا بحاجة ليطمئنوا.اتصلت بزوجي سمعتُ صوته: كيف هو ابني وأبي؟ كانت الدقائق تمضي بسرعة، وثلاثٌ منها غير كافية لكلِّ هذا الشوق، تحدّثنا قليلًا، سألته عن الجميع، اطمأنيت أنهم بخير، انتهى الوقت. هذه المرة لم أتمالك نفسي، بكيتُ طويلًا، لأجل ابني، لشوقي لأن أحتضنه وأشمّه.
في الغداء، الآسيويات أولًا، لأنَّ المطبخ لا يتسع، والغرف كذلك لا تتسع، ويعاد توزيعنا فيها بشكل مستمر. الغرفة رقم خمسة. كانت كبيرةً وبها اثنا عشر سريراً. حين دخلنا كانت الأسرة السُفلية قد حُجزت بالكامل، اضطُررنا أنا وأختي الصغرى للنوم في الأسرة العلوية، وسط برودةٍ شديدة حدّ التجمد. طلبنا أن يرفعوا الحرارة فأغلقوا التكييف، وكان الفصل صيفًا فأصبحت الحرارة شديدة، وهكذا كانوا يتناوبون على خفض ورفع درجة الحرارة باستمرار كنوعٍ من العقاب حتى أُصبنا بنزلة برد.
وللحكاية بقية..
- 2024-11-13صلاة الجمعة.. لا بيع أو شراء في الشعيرة المقدّسة
- 2024-11-13ملك المستعمرة أم ملك البحرين: كيف تتعامل المملكة المتحدة مع مستعمرتها القديمة؟ ولماذا لم تعد تثير أسئلة حقوق الإنسان على فارس صليبها الأعظم؟
- 2024-11-05الجولة الخائبة
- 2024-11-03هكذا نفخت السلطة في نار "الحرب" على غزة كتاب أمريكي جديد يكشف دور زعماء 5 دول عربية منها البحرين في تأييد عمليات الإبادة
- 2024-10-29هذه النماذج التي صدّرتها عائلة آل خليفة للعالم العربي