» تقارير
بعد أن اتهم ثورة فبراير بأن إيران خلفها...الدكتور عبد الله المدني ينقلب: ما حدث كان مأساة، واستلهم من مصر وتونس
2012-02-14 - 11:48 ص
مرآة البحرين (خاص): في يونيو 2011 ظهر الكاتب والمحلل والخبير السياسي البحريني الشهير الدكتور عبد الله المدني على قناة "العربية" السعودية[1] ليتهم المتظاهرين في دوار اللؤلؤة بأن إيران تقف خلفهم، وخلف كل أزمة مرت في البحرين، وأن الشعارات التي رفعت هناك كان تطالب بجمهورية إسلامية على غرار إيران.
كل عقدة المدني هي تلك "الدولة التي في الضفة الأخرى" (حيث لا يحب أن يلفظ اسمها حتى) يسأله مذيع برنامج إضاءات تركي الدخيل "من أين تأتي بأن إيران وراء المتظاهرين في الدوار؟" فيجيب "3 جماعات راديكالية متطرفة ومتشددة كانت تريد إقامة دولة إسلامية ورفعت شعارات تطالب بالجمهورية، وهم أناس معروفون بارتباطهم بإيران"
يحرجه المذيع مرة ثانية "هل أعلن أحد من جماعة الوفاق أنه يريد جمهورية إسلامية في البحرين؟" يظل متلعثما ويعطي إجابة مهزوزة، يحاول عاجزا أن يخلط فيها الأوراق للتهرب "جماعة الوفاق متحالفة مع حركة "حق"... وحق أساسا جزء انسلخ من الوفاق، وكانوا كلهم كتلة واحدة في التسعينات..."
في 31-1-2012 يكتب المدني مقالا [2]ينقض كل ما قاله طوال تلك الفترة "تسببت العديد من العوامل بهذه الاحتجاجات. نشأ بعضها من خارج الدولة، ونشأ بعضها من الداخل. بعض المتظاهرين أخذوا نموذج الثورتين المصرية والتونسية مطالبين بإسقاط النظام الملكي، في حين أن آخرين قدموا مظالم محددة يمكن أن تعالج وتصحح من دون ثورة، كما كان الحال في المغرب والأردن"... لم تكن إيران إذن!
كانت انتهاكات لها مبرر
يستمر تركي الدخيل في طرح الأسئلة المحرجة: ألست تتبنى وجهة النظر الرسمية؟ ألم يكن هناك تعاط قاس مع المحتجين من قتل وانتهاكات وسقوط ضحايا؟ يكذّب المدني كل ذلك "تضخيم شديد، استخدمت فيه أدوات الإعلام "المعادية" ليخرج من صورته الحقيقية" يسأله المذيع من الذي بدأ بالعنف؟ فيجيب "الذين خرقوا القانون!"
ألم تعلن حالة الطوارئ في البحرين؟ "حالة السلامة الوطنية مختلقة، الطوارئ تتطلب تعطيل الدستور وفرض الأحكام العرفية وتعطيل العمل بالقوانين وإيقاف الجمعيات وتعيين حاكم عسكري ومحاكم عسكرية" يقول تقرير بسيوني إن ما طبق في حالة السلامة الوطنية يفوق قانون الأحكام العرفية "الطوارئ"، لكن الدكتور الخبير كان حينها لا يرى!
في 27-11-2011، بعد صدور تقرير بسيوني بأيام كتب المدني مقالا بموقع (دروب)[3] انتقد فيه التقرير بحدة، وقال إن بسيوني لم ينظر إلى الأمور والوقائع إلا من خلال عيونه وحده، وإنه أفاض في تقريره حول النتائج دون التوقف عند الأسباب و"المبررات"، ولم يشر، لا من قريب أو بعيد، إلى الحق المشروع لأي حكومة مسئولة في الحفاظ على السلم الأهلي، ولامه كذلك على تبرئة إيران من التدخل في البحرين ومقارنتها بالسعودية.
ثم كانت مأساة
اليوم وبعد 3 أشهر من صدور تقرير بسيوني، استيقظ المدني (الكاتب والخبير والمحلل المعروف دوليا) فجأة ودون مقدمات على قراءة جديدة، لا نعلم كيف ولماذا؟ ربما كانت انتباهة مثقف واع أو صحوة ضمير أو مراجعة، وربما كانت نتيجة إحراج بين صفوف الأكاديميين والكتاب الذين تربطه بهم علاقة في جميع أنحاء العالم[4]، فهم أيضا قرأوا تقرير بسيوني، وسيتفاجأون كثيرا إذا كان ذلك هو موقف صديقهم المثقف الليبرالي!
اكتشف المدني فجأة من خلال تقرير بسيوني أخطاء فادحة ارتكبها نظام بلاده في حق المتظاهرين، وأن الاحتجاجات ربما كانت محقة (بعيدا عن فوبيا إيران). يقول المدني "يبدو أنها انتهاكات مؤلمة وقاتلة" ويصفها بالمأساة.
أستاذ العلاقات الدولية الشهير والخبير في الشئون الآسيوية الدكتور عبد الله المدني يختار أن يتحدث عن أزمة بلاده البحرين (بعد أن شرّق وغرّب) ويوجه خطابه للبحرينيين، ولكن باللغة الإنجليزية، وعبر شبكة Common Ground الشهيرة للخدمات الإخبارية! يترجم المقال[5] إلى 5 لغات بينها الأردية والعبرية والفرنسية وأخيرا "العربية".
يقول المدني في مقاله "يجب أن لا تمارس أي حكومة ارتكاب مثل هذه الأفعال ضد مواطنيها" ويعبر عن الحزن والأسى الذي ملأه (رغم أنه لم يكن باديا عليه من قبل) لما حدث من "مواجهات مأساوية بين المتظاهرين وقوات الحكومة في العام الماضي" ويؤكد أن هذه الحملات العنيفة خلّفت العشرات من القتلى وأكثر من هذا العدد جرحى بين المتظاهرين، في حين أن عددا غير معروف تعرضوا لاستجوابات قاسية وعنيفة في السجن.
ثم يقول متأخرا جدا إنه "من المتفق عليه على نطاق واسع أن النظام الملكي يجب أن ينهي هذا العنف وهذا النوع من الاعتقالات التي تجري خارج نطاق القضاء"
متاهات المثقف "القبلي"
كل من يقرأ المدني يتساءل كيف يفكر كمثقف وأكاديمي وماذا يريد تحديدا بغض النظر عن توجهاته؟ لم يكن هناك جواب واضح حول هذا التساؤل، إنما كانت جملة من التناقضات والمتاهات التي قالها أحيانا في وقت واحد (لقاء قناة العربية).
واحدة من تناقضات المدني بقناة العربية (المعارضة -المحفزة من إيران- كانت تكذب وتهول الأمور وتدعي أن طائرات "أباجي" استخدمت في قصف الدوار، فقط وفقط لكي تحصل على //تدخل دولي// ....نحن إزاء هذه المؤامرات الدنيئة والتخطيط المريب لزرع الفتنة والاقتتال الداخلي، أمام تحد خطير غير مسبوق، ومجلس التعاون ليس قادرا على حماية نفسه ولذلك نحتاج إلى //حماية أجنبية// وأن نشتري الأمن وذلك ليس عيبا، فالبحرين دولة ذات سيادة وبإمكانها أن تطلب المساعدة من أي مكان!)
لم يهم المدني كيف تكون منطقة النفط الأغنى في العالم ليست مؤهلة لأن تحمي نفسها! لم يذهب بعيدا كما يفعل مع دول شرق آسيا في تحليل أسباب هذا الضعف وجوانبه وتاريخه وتراكماته.
ذلك أنه سيصطدم بالطبع بنوعية الأنظمة القبلية المستبدة التي حكمت هذه الدول وحافظت أكثر ما حافظت على مستوى ثابت من تخلفها العلمي والحضاري، وأن تكون دولا مستهلكة ضعيفة ومعتمدة على الشرق والغرب دائما وفي كل شيء، رغم كل هذه الثروة التي ليس لها نظير. كل هذا نتيجة حتمية للحكم الرجعي المطلق ولسلب سلطات الشعب وحقه في إدارة شئون نفسه وسرقة إمكاناته وغياب شكل الدولة العام من كل النواحي بدءا من التخطيط وانتهاء بآليات التنفيذ والمراقبة.
هذا ما لم يرد أن يقوله المثقف والأكاديمي، ليس لأنه لا يجرؤ، بل لأن هناك ما هو أهم بالنسبة له وهو "نظام ولاية الفقيه" و"إيران"، ذلك فقط ما يمكن أن يبرر تأخر التحول السياسي في الخليج ووجوب السكوت عنه إلى أجل غير مسمى!
"الثورة تقوم في مكان ما من أجل دولة تحفظ الكرامة والحقوق الإنسانية، فكيف يثور أناس لتأسيس نظام ديني شبيه بالنظام الإيراني الذي مرغ كرامة الإنسان الإيراني العظيم في الوحل؟" هذه كانت قراءة الدكتور المدني لثورة فبراير في قناة العربية، لكنه استيقظ فجأة على أن مصر وتونس هما ملهمتا هذا الحراك وليس إيران، كما أنه استوعب متأخرا أن النظام البحريني "القبلي" هو الآخر مرغ كرامة الإنسان البحريني في أقذر الوحول!
في مقاله الأول عن تقرير بسيوني (نوفمبر 2011)[6] يمتعض المدني مما سمّاه "التكرار الممل" لحكاية "المرفأ المالي" وشراء أرضه بمبلغ دينار واحد، ويتهم بسيوني بأنه كمن يتبنى "خطاب المعارضة الطائفية التي اتخذت من هذا الملف دليلا على فساد الحكومة، وعبأت رؤوس الصبية والمراهقين بفكرته كوسيلة لحشدهم من أجل قطع الشريان المالي والاقتصادي الأكبر في البلاد"
المدني الذي لم يكن متحفظا في لقائه بقناة العربية على تسمية الدوار بدوار اللؤلؤة لم تكن تبدو على حديثه لكنة المحلل والخبير السياسي، تساءل بعقلية رجل الشارع المفرطة "كيف تسمى ثورة والذين ذهبوا لدوار اللؤلؤة يركبون أفضل السيارات الفارهة؟ بما فيهم الأطباء الذين تعلوا رواتبهم على 3000 دينار، ولديهم أفضل البيوت وأبناؤهم يدرسون في مدارس خاصة"
الحكومة حولت البلد إلى سنغافورا...والفقراء هم السبب
تعقيبا على ذلك يقول "الخبير" السياسي الليبرالي إنه يفهم الثورة على أنها مطالبة بمستوى معيشي أفضل! "كيف أسميها ثورة وأنت ليس لديك مطالب معيشية محقة؟" يلذعه تركي الدخيل بسؤال آخر: أليس هناك إقطاع في البحرين؟ وبأسلوبه المتهرب والالتفافي يجيب "هناك إقطاع في كل الدنيا، وهناك من الشيعة والسنة من يعيشون في فقر مدقع، وهناك مساكن بائسة في المحرق على سبيل المثال"
رغم ذلك، يظل المدني مدافعا بكل شراسة على أن سبب الفقر والمشاكل الاقتصادية ليس الدولة حتما "المشكلة ليست مشكلة الحكومة، فهي قد أتاحت جميع الوسائل لكي يرتقي المواطن بنفسه، ليس هناك في البحرين إمكانيات اقتصادية كبيرة، ولولا السياسية التنموية الذكية للنظام لما أصبح في البحرين بنية تحتية متقدمة وجميع الخدمات، متقدمة على كثير من دول المنطقة، لقد حولوا البلد إلى مركز خدمات، مثل سنغافورا"
ما المشلكة إذن؟ "هناك أناس ولخلل شخصي ما لا يريدون أن يعملوا ويجتهدوا لأنفسهم. لماذا لا يستفيدون من مشروع تمكين مثلا؟ بعض الناس استفادوا لأن لديهم قابلية، وآخرون لا لأنهم يفضلون النوم في بيوتهم" هكذا طعن المدني في فقر البحرينيين بكل جرأة، ليصل إلى نتيجة مفادها "لم تكن لدينا مشكلة"!
كانت هذه لغة المحلل السياسي والخبير الاقتصادي في قضية وطنه البحرين، حتى فبراير 2012.
ثم كانت مظالم اقتصادية وعدم مساواة
ينقلب المدني في مقاله الجديد[7] انقلابا حادا وعجيبا على كل هذه التنظيرات التي لا تناسب مقاسه الأكاديمي وباعه الطويلة في التحليل السياسي والاقتصادي، يرد هو على نفسه ويعترف هذه المرة بأن للمتظاهرين مظالم حقيقية كالفساد في أوساط النخب، وعدم المساواة عندما يتعلق الأمر بالفرص الاقتصادية، وهي مظالم يشترك فيها الناس في كل المنطقة، حسب تعبيره.
يؤكد المدني أن التوترات السياسية والاجتماعية على المدى الطويل ليس مصدرها إيران كما كان يصيح ليل نهار، ولكنها عزيت إلى حقيقة أن نظاما ملكيا سنيا يحكم أغلبية شيعية من المواطنين. إلا أنه يقول "إن الطائفية في حد ذاتها لا تفسر استياء الناس، فهناك من الشيعة من يتمتع بالثروة والسلطة، كما أن هناك من السنة الفقراء والمحرومون"... إذن هناك طائفية، وهناك فقر وحرمان لا يمكن تبريره بين كل قطاعات الشعب!
متاهات النخبة والإرادة الشعبية
يدفع الدكتور المدني في مطالبته الملحة بالكونفدرالية الخليجية باعتبار أنها "مطلب شعبي" لا مطلب "نخب" فقط. صار رأي الشعوب مهما، من هنا أخذ ينتقد قرار مجلس التعاون ضم "المغرب والأردن" إليه، ويصف المشكلة الرئيسية في القرار بأنه "فوقي" وجاء دون استشارة "أحد" في الزمن الذي يدعو فيه العالم كله إلى المشاركة في صنع القرار، كما يعبر.
"المشاركة" و"صنع القرار" مفاهيم جديدة كليا على كل خطاب المدني الذي دام حوالي الساعة في قناة العربية، إلا أن هذه المفاهيم لم تلبث أن تنتكس "لا نريد استفتاء شعبي مثل ما يحدث في أوروبا حين تطلب دولة ما الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ولكن فقط نطالب باستشارة النخب".
هذا "الأحد" الذي يجب استشارته لم يكن الشعب، يكرر المدني كلمة النخب مرات عدة في مقالاته وكذلك في لقائه بقناة العربية، وهذا ما يفسر لغته المتعالية على "الفقراء" واتهامهم بالكسل.
يستغرب تركي الدخيل هذا السقف المتدني، ويسأل المدني "أي نخب تقصد، هل هي أنتم الليبراليون أم غيركم، لأنكم ستتضاربون مع الإسلاميين" يأتيه الجواب في متاهة من المعنى "النخب العامة وهي كثيرة ولم نعد أقلية!" يختار المدني ثقافة "الصراع" و"المغالبة" حتى يحقق انتصارا فكريا ولو كان انتصارا وهميا.
في الحلقة الأخيرة، سنرى كيف كان المدني (المحلل والخبير السياسي) يرى تداول السلطة أمرا محرما، وأن إصلاحات النظام لا شبيه لها في منطقة الشرق الأوسط، بينما يصف المتظاهرين بأنهم كانوا غوغاء، معيبا على اليسار الماركسي انضمامه إليهم!
ثم سنرى... كيف انقلب؟!
في لقاء "العربية" يحرجه المذيع تركي الدخيل للمرة الألف "لماذا لا تطبق هذا الأمر على الحالات الأخرى مثل ليبيا ومصر وسوريا وغيرها؟ لماذا تقف الأمور عند البحرين فقط؟"
يتلعثم الدكتور عبد الله المدني "لا ... أستاذ تركي.. أنت لديك في البحرين عملية إصلاحية، يجب أن تأخذها وتبني عليها وتطورها، كما يطالب النظام!!! النظام راغب في العملية الإصلاحية ولم يقفل الباب أبدا..."
تداول السلطة كان أمرا محرما
يضيف المدني "أنت ليس لديك فقر ونظام أمني جائر! البحرين حالة مختلفة، لديك نظام أعطى للشعب البحريني ما لم يعطه أي نظام عربي آخر، إصلاحات لا شبيه لها في الدول العربية ولا حتى في منطقة الشرق الأوسط...الملك بيض السجون، والجمعيات السياسية عملها مرخص ولها نشراتها وتحصل على دعم من الميزانية العامة"[8]
حول المطالب السياسية الأخرى يهزأ المدني بكل صراحة من مطالب الملكية الدستورية وتداول السلطة التي يعترف أنها طرحت في الدوار "تداول السلطة بمعنى الوصول إلى رئاسة الوزراء وما يتبعها من قيادة الجيش وما إلى ذلك... هذا شيء حساس جدا.. وأنا أعتقد أن الأنظمة في الخليج كل الأنظمة وليست البحرين لن ترضى بذلك"
لقد كان ذلك تخريج المثقف الليبرالي والأستاذ الأكاديمي عبد الله المدني لرفض المطالب السياسية للمعارضة والتي تجعل السلطات في يد الشعب بدلا من يد القبيلة!
ثم كانت الحاجة إلى إصلاح سياسي
يحظى عبد الله المدني الكاتب والباحث والأستاذ الجامعي، بسمعة دولية كبيرة، باعتباره خبيرا سياسيا واقتصاديا قديرا في الشئون الآسيوية، درس الاقتصاد، العلاقات الدولية، و الاستراتيجيات، وكان تخصص شهادته في الدكتوراة "الفلسفة في العلوم السياسية" من جامعة اكستر البريطانية.
لم تشفع كل هذه المؤهلات والخبرة الطويلة للمدني بأن يكون في أزمة بلاده "على الحياد" باعتباره مراقبا في أقل تقدير، إن لم يكن واجبا عليه أن يصطف مع المطالبين بالتحرر والديمقراطية في أي صيغة ممكنة. إنجازاته الثقافية التي لم يكن آخرها كتابه "ارفعوا أيديكم عن حناجرنا" لم تفلح في أن يخضع شعارات "إسقاط النظام" إلى مورد التعبير عن الرأي، ولذا لم يكن هناك بد من لجمها وخنق "الحناجر" التي صدحت بها ذات يوم.
يرجع المدني اليوم، ويطرح تحليلا آخر[9] لما يحدث في بلاده "لم تكن هناك ضوابط ولا رقابة ولا توازنات بين البرلمان والحكومة والقضاء". يؤكد المدني أن "عدد المسلمين الشيعة يفوق في البحرين عدد المسلمين السنة من حيث المواطنين" الشيعة أغلبية في البلاد، لكن النظام ملكي سني مطلق السلطات، وهو ما خلق بيئة ملائمة لينمو فيها التمييز والطائفية واللامساواة.
الحل كما يبدو لدى المدني اليوم مختلف، فهو ليس القمع ولا "الكونفدرالية" ولا خنق الحناجر! بل هو أن "تجتمع الحكومة والشعب معا على صياغة استراتيجية جديدة للتعاون، وتحقيق إصلاح سياسي واجتماعي ذي معنى، يكون من شأنه تقوية البلاد من خلال تمكين جميع مواطنيها"
تصحيح هذه الأخطاء هو المساواة في التمثيل داخل المؤسسات الحكومية القائمة وأمام القضاء، وهو بأن يحظى البرلمان المنتخب على قدر أكبر من السلطة، وأن تحصل السلطة القضائية على الاستقلال التام وتنشأ هيئة لمكافحة الفساد بسلطات تحقيق مستقلة" وفي "صراعنا ضد الفساد والمحسوبية" التي اكتشفها فجأة، نحتاج كما يقول المدني إلى قضاء صارم.
كانوا غوغاء واليسار الماركسي كان معهم
"حركة المتظاهرين ليست سوى اعتداءات بغرض تخريب وهدم ما بني خلال 40 عاما مضت" هكذا وصف المدني تظاهرات العام الماضي. لم يكتف المدني بأن يكيل أقذع الأوصاف والتهم للمتظاهرين، بأنهم أتباع إيران وطابورها الخامس، أو أنهم صبية ومراهقون سممت أفكارهم طائفيا وسياسيا الجمعيات السياسية ذات القصور الشديد في فهم السياسة حسب قوله.
فالمدني المثقف الليبرالي العتيق الذي اصطف بدوره إلى جانب "المكون الشعبي الآخر في جامع الفاتح" لدعم النظام "القبلي"، ولم ينكر انتماءه لقيادته الدينية ممثلة في الشيخ عبد اللطيف المحمود الذي أشار إليه في اللقاء، عاب على "الجماعات الماركسية اليسارية والجماعات البعثية القومية أن تضع أيديها في يد شخص يريد أن يقيم نظام ولاية الفقيه في البحرين" حسب زعمه.
وفي تعليل غريب على لغة الأكاديميا، يدّعي المدني أن أعضاء الحركات اليسارية يحقدون على الحكومة منذ السبعينات، ومتشبعون بكراهية النظام، لما حدث وقتها من اعتقالات وتعذيب بين صفوفهم، لكنه بحذاقة المؤرخ يبرئ الحكومة من ذلك أيضا، ويرميه في ملعب "الإنجليز المحتلين" رغم أنهم خرجوا من البلاد عام 1971.
اليوم في مقاله الجديد، يتغير وصف هؤلاء المتظاهرين كليا، ليكونوا "الساعين إلى التغيير، والمهمشين البحرينيين". مع ذلك تبقى مظلمة اليسار البحريني المناضل والذي قدم تضحيات كبيرة في هذه الأزمة على رأسها اعتقال وتعذيب المعارض الوطني إبراهيم شريف رئيس جمعية وعد، ويبقى الوقت متأخرا كثيرا على أن يقدم المدني اعتذارا صادقا لكل هؤلاء عن الذنب العظيم الذي اقترفه بحق تاريخهم.
متأخرا
يقول المدني في مقاله "ربما لا تكون هذه المفاهيم الإصلاحية سوى بداية لعملية طويلة وشاملة، ما لن يحدث بين عشية وضحاها. في هذه الأثناء، ليبدأ الحوار وكذلك أول الخطوات"
قد يكون في ذلك وجه من الصحة، لكنه من المعيب أن يتحدث المدني الآن فقط عن هذه "العملية الطويلة" التي نحتاجها! أين كان المدني حين كانت هذه العملية يجب أن تبدأ قبل عام من الآن؟ لماذا ظل مع الآخرين يساند قمع النظام الوحشي الذي لا تفسير له سوى عرقلة هذه العملية لتجنيب النظام فقدان مزيد من سلطاته المستبدة؟
نعم، ليبدأ الحوار. ولكن لماذا لم يتكلم المدني عن ما يسمى بحوار التوافق الوطني بأنه لم يكن حوارا فعلا، ولم يكن فيه نية جادة لإصلاح سياسي ذي معنى كما يطالب الآن؟
ثم مع من سيطلب عبد الله المدني الحوار، هل مع المعارضة اليسارية التي قال إنها "غيرت في لحظة غرور وجهها التقدمي، وتخلت عن تاريخها النضالي المعروف، ودفنت مبادئها القومية واليسارية، بمقدار مائة وثمانين درجة" أم مع المعارضة الإسلامية التي قال عن زعيمها الشيخ علي سلمان إن "مفاتيحه" ليست في يده، لأنه يخضع إلى تراتبية هرمية دينية تصل إلى الشيخ عيسى قاسم الذي يجب أن يستأذن ويرجع له في كل شيء (باعتباره مرجعية وآية الله) ما يعزى له إجهاض حوار ولي العهد في اللحظات الأخيرة، وإفشال مبادرة لجمع الطائفتين في صلاة واحدة بمسجد الفاتح وقتها، حسبما يزعم.
لم يحل المدني هذه الإشكالات المفتعلة، بل استسلم كغيره من عشرات الأكاديميين والمثقفين مع الأسف لأن تتلبسه فوبيا إيران ومسبقات الحكم على التيارات السياسية دون أدنى نقاش موضوعي يقوم في المقام الأول على الفهم الدقيق وحسن النوايا وإصلاح ذات البين، لا الاختزال والتصلف ثم التباكي على انقسام المجتمع وتعاديه.
لم يكن لدى المدني وغيره الوقت في أن يفكر ويتأمل ويتروى ويبحث عن حل يعالج هذه الأزمة المتفاقمة، لم يكن لديه أدنى شعور بالمسئولية تجاه المجتمع ووحدة الوطن الذي تنخر فيه الانقسامات لأوهام وفبركات كشف زيفها تقرير بسيوني المستقل والمحايد، والذي لم يسلم هو الآخر من نقد متهافت وغير موضوعي لا يناسب مثقفا في مقام الدكتور عبد الله المدني.
لم يكن المدني صادقا في أنه يريد من مقاله استشراف "مستقبل مضيء للبحرين". كتب مقاله باللغة الإنجليزية لأصدقائه في آسيا والغرب وليس للبحرينيين، وكأنه يخجل من أن يقرأه أحد منهم ليطلع على هذا الانقلاب المفاجئ!
وليس من المرجح أن لا يستمر المدني في إسقاطاته التهويمية لإيران على كل التائقين للعدل والحرية والكرامة في بلاده، شيعة كانوا أم سنة، إسلاميين أم علمانيين، فتلك ضريبة التلبس بالثقافة القبلية لمواجهة أي مد "ديني" ولو على حساب مبادئ "الليبرالية".
كان يفترض بعشرات من يعدّون أساتذة وأكاديميين أن لا ينزلقوا منذ البداية إلى وحل السلطة لمجرد ما في مخيلتهم من أوهام ومسبقات حول إيران والشيعة في البحرين، لكن الأدهى والأمر بقاء هؤلاء على نفس موقفهم رغم كل ما جاء به تقرير بسيوني (الدولي المستقل المحايد) من تأكيدات على أن النظام الذي يحكمنا نظام وحشي مستبد مارق.
- يتنقل المدني بين جامعات الخليج كمحاضر زائر، وله العديد من الدراسات والأبحاث المهمة جدا في تخصصه. يكتب المدني المقالات المنتظمة في صحف ودوريات تصدر من كل أنحاء آسيا والخليج باللغتين العربية والإنجليزية، وهو يتقن الحديث باللغات الفرنسية والفارسية والهندية أيضا
- أوقفت ترخيص إصدار النشرات للجمعيات السياسية منذ سنوات، كما حورب نشاطها واعتقل أعضاء كثيرون منها على مر العقد المنصرم واشتد بحدة خلال الفترة الماضية، وأوقفت جمعية العمل الوطني الديمقراطي خلال فترة الطوارئ، ولا زال الدعم المالي موقفا عن كل الجمعيات السياسية المعارضة.