د. علي الديري: سيرتي في ثورة 14 فبراير.. خارج الورق داخل الميدان
2012-01-05 - 12:31 م
مرآة البحرين(خاص): في هذه السيرة التي بقدر ما هي سيرة ذاتية هي سيرة موضوعية، أريد أن أسرد وقائع تشكل ذاتي من خلال وقائع تشكل دولتي، هنا السيرة الذاتية تلتحم مع سيرة الدولة . وحدث الثورة في البحرين يحمل موضوعين، موضوع الدولة وموضوع الطائفة . كيف تتحول الطائفة إلى دولة؟، وكيف تتحول الدولة إلى نظام قادر على أن يستوعب عدة طوائف ثقافتها مختلفة ومواقع مصالحها مع الدولة مختلفة، ورواياتها للتاريخ مختلفة وأحياناً متضاربة؟ ذلك هو التحدي الذي يمكن أن نقول إن تاريخ البحرين قد مر به في حدث 14 فبراير، لذلك فحدث 14 فبراير هو جزء من هذه السيرة، سيرة تحول الطائفة إلى دولة، أو القبيلة إلى دولة . أريد أن أسرد تشكل حركة 14 فبراير بما هي محاولة للخروج من إطار الطائفة وإطار القبيلة إلى إطار الدولة، والتحديات التي واجهتها.
ألا أخون
تجربتي الشخصية في هذا الموضوع سأبدأها من كينونتي الثقافية . قبل أيام من 14 فبراير، كنت كتبت تويتة أتساءل فيها : أنا مثقف بحريني ماذا يعني ذلك الآن؟ ممكن أحد يساعدني؟ رد علي أحد التويتريين : يعني أن تمارس وظيفتك الطبيعية، أعني النقد. سألته : نقد ماذا الآن؟ أجابني : نقد التفكير الأعوج طبعاً. بمعنى أن المثقف مهمته أن يجعل التفكير ممكناً بشكل منطقي في المجتمع. قلت له: يا صديقي، أبحث عن جواب ينجيني من قائمة العار.
كنت أفكر في اللحظة التي توشك فيها الحركة الثورية أن تبدأ في مجتمعي، كيف يمكنني أن أتجنب أن أبدو خائنا فيها. في تلك اللحظة كنت أسترجع كتاب باندا حول (خيانة المثقفين)، فحين يتخلى المثقف عن أخلاقياته ومبادئه يخون. أتساءل مع هذا الحدث الكبير الذي يوشك أن ينفجر في البحرين هل سأكون خائناً أم سأكون مثقفاً حقيقياً ملتزما بوظيفتي الأخلاقية والنضالية في هذا المجتمع . وأنا هنا أستعمل النضالية ليس بالمعني السياسي الصرف، إنما بالمعنى الثقافي الذي يعني أن المثقف دائماً في حالة نضال من أجل الحرية، ومن أجل الإنسان، ومن أجل إحلال العقل في المجتمع، ومن أجل خلق إمكان التعايش، هذه هي مهمة المثقف النضالية. كنت قلقاً، وهذا القلق وجدت ما يبرره فعلاً في سيرورة الأحداث فيما بعد. فالأحداث تكشفت عن خيانة مثقفين كثيرين لمهماتهم في المجتمع، وتلك الخيانات دفعتني في النهاية إلى أن أستقيل من (أسرة الأدباء والكتاب) بسبب هذه الخيانة وقد أشرت في رسالة استقالتي لها بشكل مكثف، إذ كتبت فيها:إن الثقافة لا تولد الفضيلة بشكل آلي، فسوء الأخلاق لدى الجماعات المثقفة لم يعد يدهشنا"تودوروف
أستقيل، لأنه لم يعد شيءٌ يدهشني .
هذا القلق جعلني على تماس وترقب لما سيحدث في 14 فبراير . وهو ما دفعني للانخراط في هذه الأحداث لاحقاً. فقد بدأ الحدث كبيراً منذ اليوم الأول، لا لأن حركة الشارع بدأت قوية، بل لأن القمع كان دموياً منذ يومه الأول. الاحتجاج يحرّك الشارع، لكن الدم يفجّره.
تفجّر الدم
الاحتجاجات الشبابية التي خرجت من نحو 25 منطقة من مناطق البحرين، ترفع أعلام البحرين وحدها، وتهتف بهتافات تطالب بإصلاحات سياسية والإفراج عن السجناء، ومطالب معيشية أخرى، كانت تحمل شعار "الشعب يريد إصلاح النظام". تعرضت منذ لحظة خروجها مساء 14 فبراير لقمع عنيف من قبل رجال الأمن. سقط الشهيد الأول سريعاً، وصادماً، إنه علي مشيمع (21 سنة). الاحتجاج تحّول من فوره إلى كتلة غضب. لم تتمكن صدمتنا أن تلتقط أنفاسها بعد، ففي صباح اليوم التالي 15 فبراير، وأثناء تشييع جثمان الأول، أسقطت قوات الأمن الشهيد الثاني أثناء خروجه للمشاركة في تشييع الأول، إنه فاضل المتروك (32 سنة). أيضاً، عشرات الجرحى، إصابات بطلقات مطاطية وشوزن، حالات متفاوتة. الغضب اشتد، الجماهير احتشدت أمام مستشفى السلمانية الطبي حيث قتل الثاني قريباً منه، الهتاف احتد: "الشعب يريد إسقاط النظام". هكذا تطور الحدث سريعاً كما تطور الشعار.
ظهراً في اليوم نفسه، يخرج الملك على شاشة التفزيون، يعرب عن أسفه للحدث الذي وقع: "على ضوء ما جرى من حوادث متفرقة يوم أمس واليوم وكانت هناك للأسف وفاة لاثنين من أبنائنا الأعزاء، وعليه نتقدم بتعازينا الحارة لذويهما وأن يلهمهم العلي القدير الصبر والسكينة والسلوان. كما ليعلم الجميع بأننا قد كلفنا سعادة الأخ جواد بن سالم العريض نائب رئيس مجلس الوزراء بتشكيل لجنة خاصة لمعرفة الأسباب التي أدت إلى تلك الأحداث المؤسفة التي جرت".
اللجنة التي شُكلت في ذلك التاريخ بأمر ملكي، انتهت مهمتها عند حد خبر الإعلان عنها، اللجنة منذ ذلك التاريخ لا حس ولا خبر ولا نتيجة، إنها لعبة النظام المستهلكة حد السخرية.
عصراً، كان دوار اللؤلؤة يعج بالمتجمهرين الغاضبين، حملوا غضبهم وجاؤوا يهتفون به في الميدان العام. عشرات الآلاف توافدت إلى دوار اللؤلؤة، لم يوقفهم الأمن هذه المرة. بدا المشهد خالياً من رجال الأمن الذي انسحب بعد خطاب الملك. في المساء بدأ نصب الخيم والتمهيد لاعتصام أعلن أنه يمتد حتى تحقيق المطالب.
فتح الميدان
كانت دهشة كبيرة لحظة وصولنا دوار اللؤلؤة في تمام الساعة الثالثة وأقل من عشر دقائق، يوم الاثنين 15فبراير، لم يتوقع أحد أن يصل. أرسلت مباشرة صورة بالآيفون عبر برنامج الـ ( whatsApp ) وكتبت معها: نحن في قلب ميدان اللؤلؤة الآن بانتظار ردة فعل قوات النظام . كانت الرسالة الأولى التي بعثت بها لأصدقائي ومن هم معي في القائمة عبر تويتر والواتس آب . كنت أتحدث عن لحظة الوصول إلى دوار اللؤلؤة وما تمثله هذه اللحظة الرمزية من محاولة لفتح ميدان عام مشترك يشارك فيه الجميع في صنع شكل الدولة ونظام الدولة التي يريدونها هم .
كنت أكتب ورؤوس البصل تتدحرج بين أقدام المحتجين، استعداداً، ليس لمواجهة رؤوس الأمن، بل رؤوس طلقاتهم المسيلة للدموع. بعد لحظات سمعت الهتافات تأتي من محيط دوار اللؤلؤة، إنه إبراهيم شريف الأمين العام لجمعية وعد محمولاً على الأعناق يلوّح بعلم البحرين بيدٍ، وباليد الأخرى يلوّح للمحتجين معبراً عن وقوفه إلى جانبهم .
كانت الشمس ساطعة وبياض نصب اللؤلؤة ناصعاً بالبياض. بدأ بعض المحتجين يأخذ قيلولته فوق حشيش الميدان بعد تعب صبح مجهد وطويل، ولفرط دهشة الوصول يكتفي بإغماضة واحدة . معنى الميدان بدأ يتشكل في ذهني تدريجيا. كان دوار اللؤلؤة قبل هذا اليوم، ليس أكثر من دوار مروري مختنق دائماً بحركة السيارات العابرة من خلاله، لكنه صار الآن محطة تحدي، كيف نصل إليه متحدين اختناقات النظام، الاختناقات التي سببها الفساد والتمييز والعنف والاستبداد وغياب المواطنة وتفريخ جماعات ولاء مصطنعة. عشرات الألوف من الجماهير المنددة آخذة في التوافد والهتافات تعلن غضبها.
مختبر التعايش
مع بداية ظلال المساء، صار الدوار ميداناً، ليس مكاناً تدور حوله السيارات لتأخذ اتجاهها الذي تقصده، فقد أمسى مكانا يدخله الناس ليُدينوا أجهزة النظام التي أتعبتهم من الدوران حول منطقة فارغة من المعنى الذي يعدهم بالأيام التي لم يعيشوها بعد.
مع المساء صار الميدان منصة. افتتحها المحامي حسن رضي بالقول إن الدستور العقدي هو مطلب هذا الشعب، والدولة الديمقراطية التي نريدها هي دولة يحكمها شعب وفق دستور يحمي تنوعات الشعب بجماعاته المختلفة.
صديقي، الأكاديمي والمثقف البريطاني (أدريان بروكت)، كان مصراً ليلتها أن يصل ميدان اللؤلؤة، ترجّل من سيارته عند فندق الرجنسي ( يبعد 800مترا تقريبا)، ليصل الميدان بعد مشقة في تمام الساعة الحادية عشر ليلا، ترافقه زميلته، كنت بانتظاره مع مجموعة أصدقاء وصديقات، قال لي في لحظة دهشة : معقول كل هذا ! كل هذه الحشود المحتجة في ميدان عام والناس بشعاراتها ولافتاتها وهتافاتها من كل الأطياف. قلت له في البحرين فقط من بين دول الخليج معقول، وهذا الاستثناء هو ما يجعل من تجربة هذا الميدان محفوفة بالخطر والمغامرة . فما يحدث هنا، هو اختراق لمنظومة الوحدة الخليجية (للمنظومة وليس للوحدة )، وهي منظومة مؤسسة على الولاء لصاحب السلطة والطاعة له مقابل ضمان العطاء.
في اليوم التالي، الأربعاء 16 فبراير، كان الميدان حركة تموج بالناس والاختلاف. ظهراً، يصلي المعتصمون سنة وشيعة صلاة ظهر واحدة. صفاً واحداً لا صفين. عصراً، الشباب يعيدون طلاء نصب اللؤلؤة، بعد أن كتبوا في اليوم السابق انفعالاتهم الهائجة. يعيدون النصب نحو البياض، ويزيدونه من وهج حماسهم بياضاً.
الميدان الآن صار مختبراً للتعايش المشترك بين الجماعات المختلفة التي بدأت تتوافد عليه، وهذا هو التحدي الأكبر أو الجهاد الأكبر، كيف نجعل من الميدان ساحة مشتركة، ميداناً عاماً، تظهر فيه مشتركاتنا الوطنية، وتغيب خصوصيات كل جماعة، حتى ذلك الوقت، الوضع ما زال بعد دون سقف الطموحات، لكن، من الواضح أنه آخذ في التشكل، فالميدان ساحة تجربة حقيقية، والتجربة هي المختبر الذي يعلمنا كيف نعيش مشتركين بقدر ما نحن مختلفين.
نشيد لم يكتمل
هكذا إذاً، وجدت نفسي سريعاً جزءاً من هذا الميدان، ومثلما وجدت فيه تجربة للعيش المشترك معاً بالنسبة للمختلفين، كان بالنسبة لي تجربة أخرى، لنقل مختبر لمفاهيمي النظرية كمثقف معني بالحرية والإنسان والفضاء العام والميدان المشترك والدولة والتعددية والديمقراطية. كان علي أن أقترب عملياً، من المفاهيم النظرية، التي استهلكتها كتب المفكرين والمثقفين الكبار، أختبرها في ميدان الناس وعلى أرض الواقع. وجدتني بالقدر نفسه أريد أن أوظف أدوات الاتصال الحديثة جميعها لأنقل هذه اللحظات بكل ما فيها. أن أكون شاهداً ينقل أحداثها بعينه الناقدة والمعايِشة. عبر تويتر كنت أنقل مقتطفات من الخطابات التي تقال في الدوار وموقفي النقدي على بعضها، أسجل ملحوظاتي عما يقال، وما أراه لا يحقق مفهوم الدولة المدنية.
ليل 16 فبراير، أفترشت حشيش الدوار، واضعاً حاسوبي المحمول في حضني، جلست أكتب تأملاتي هذه، وتجربتي الجديدة تلك، بعد عودتي للمنزل قرابة الساعة الواحدة فجراً، أرسلتها لعدد من الأصدقاء، ولمجموعة دروب الإلكترونية التي تضم نخبة من السياسيين والإعلاميين والمثقفين البحرينين. لم أكن أعلم حينها، أنه تفصلني عن خبر الفاجعة ساعات قليلة. غفوت وصحوت قريباِ من الساعة الرابعة فجراً على وقع الخبر: قوات مكافحة الشغب مدعومة بالجيش تهجم على الدوار عند الثانية والنصف من فجر اليوم، وتخلف إصابات وقتلى. كيف يمكن أن أستوعب الصدمة؟ كنا للتو هناك ننشد الحرية ونحتفي بالتعدد والاختلاف. كان الجميع ينامون في سلام الحلم. كيف يجرؤون على هذا الاغتيال؟
قتيلان أعلن عن سقوطهما، ومئات الجرحى، حتى الخيمة الطبية لم تسلم من الاغتيال، كذلك الطاقم الطبي، الطبيب صادق العكري يتعرض للهجوم والضرب ولم يشفع له رداؤه الأبيض وإخباره لهم أنه طبيب، يسقط، ينقل إلى غرفة العمليات. الأخبار نتواردها عن طريق تويتر والفيس بوك. المصابون لجأوا إلى مجمع مستشفى السلمانية الطبي، اعتبروا الحرم الطبي مكاناً آمناً، الطاقم الطبي في حالة ذهول. لا أحد يعرف حجم المصابين وعددهم وإصاباتهم. الحالات والإصابات بدأت تتوافد إلى المستشفى في سيارات خاصة. الإسعافات التي خرجت لتقل الجرحى اختفت. تجمهر وهيجان حاشد. المحتجون يحاولون العودة للدوار. قوات الأمن تواجههم بمسيلات الدموع والرصاص المطاطي والإنشطاري عن قرب. رأس ضحية ثالثة بتصويب مباشر يتم تفجيره، الحادث، تشهدته الصحفية نزيهة سعيد وتنقله للإعلام. قوات الأمن تتقدم من جهة الدوار باتجاه مجمع السلمانية الطبي. تمنع المسعفين من الوصول إلى الدوار، تهاجم المسعفين وتقوم بضربهم.
مختبر المثقف
لم أحتمل البقاء في مكاني أكثر، خرجت متجهاً إلى مجمع مستشفى السلمانية الطبي. أصل قبل خروج مسيرة الكادر الطبي احتجاجاً على الوزير فيصل الحمر وطاقمه الإداري، بسبب منعه الإسعافات من الوصول إلى الدوار لإنقاذ الجرحى والمصابين.
كان المكان ضاجاً بالفوضى والغضب والانفجار. والصدمة التي لم تستوعب هذا الهجوم بعد اعتذار الملك قبل أقل من يومين فقط (؟). هناك كنت أشاهد بكاميرتي وبحواسي كلها الأجساد المصابة ، أرى البكاء ومفعول هذه المجزرة في الناس وفي هتافاتهم التي كانوا يصرخون بها في مستشفى السلمانية. وعبر تويتر كنت أنقل هذا الحدث، وكأني كنت أحول وظيفتي الثقافية، من الجلوس في البرج العاجي، إلى لمس الناس.
تويتر كان يحرضني لأن أذهب إلى أماكن الحدث نفسها، أن أتابعها بنفسي، أسجلها بنفسي، أنقلها بنفسي، أقترب من حقيقة ما يحدث. المثقفون الذين لم يكونوا قريبين من هذا الحدث، كانوا بعيدين جداً، حتى لو كانت جغرافيا البحرين قريبة، إلا أنهم كانوا بعيدين لأنهم كانوا يستقون معلوماتهم عبر وسائل الإعلام الرسمية وعبر أبراجهم العاجية، وعبر مواقع مصالحهم في الدولة، ولو كانت هذه المصالح في شكل تسهيلات تافهة. وما يأتي إليك ليس هو الحقيقة، ما يأتي اليك هو ما يراد إيصاله إليك، ربما يُعذر البسطاء أن تنطلي عليهم مثل هذه الألاعيب وأحابيلها وطرق تزييفها ودجلها، لكن لا عذر للمثقف الذي يقرأ التاريخ ويقرأ بطش الأنظمة أن يجلس متلقياً مثل الآخرين، في حين المسافة بينه وبين رؤية الحقيقة بأم العين، خطفة قدم.بعض المثقفين راح يضفي على رواية السلطة مصداقية أكبر، عبر الترويج لفكرة طائفية المعارضة.
تويتر كان بالنسبة لي إذاً، محرض آخر على الذهاب للحدث، لا انتظار أن تصلك أخبار الحدث، كتبت من هناك رسائل تختنق باللحظة والصدمة: هنا في مستشفى السلمانية الطواقم الطبية في حيرة والمحتجون في حيرة والمصابون معلقون. والشهداء وحدهم حسموا حيرتهم. مطمئنون تماماً. كتبت أيضاً: هنا في ساحة الطوارئ الوضع مبكي جدا، مضحك جدا، جاد جدا، هزلي جدا، يائس جدا، متفائل جدا. هنا مجمع التناقضات، وكلنا ننتظر سيارة إسعاف يسمح لها أن تأتي من الميدان بجثة أو شبه جثة أو لا جثة، حتى بس لو تجي. كتبت أيضاً: دخلت المشرحة وصورت جثث الشهداء كان أحدهم مهشم الرأس وحالة الناس هستيرية". خرجت من ساحة المستشفى، وتوجهت لجمعية حقوق الإنسان، من هناك جاءني اتصال من قناة BBC، كان يسألني بوصفي كاتباً وصحافياً عن تطورات الأحداث على أرض الواقع، شهدت بما رأت عيني وما شهدته حواسي.
خارج الورق داخل الميدان
كتبت حول الاقتحام الأول للدوار: كان الخميس 17 فبراير يومان لا يوم واحد، يوم ما قبل الثالثة صباحا ويوم ما بعد الثالثة، يفصل بينهما رصاص الجيش، لقد نجح الجيش في مهمته المستحيلة، جعل لنا يوماً آخر لا ينُسى في يوم كان يمكن أن يُنسى، ما أعظمك أيها الجيش خلّاق في مهماتك المستحيلة، جعلت نهارنا طويلاً طويلاً.
بفضلك أيها الجيش دخلتُ أنا - أنا الذي اعتدت رائحة الأوراق والكتب لا رائحة القتلى - في اليوم الثاني من اليوم نفسه مشرحة الموتى، إنها المرة الأولى التي أدخل فيها غرفة الموتى، دخلت كي أصدق أنك قمت فعلا بمهمتك المستحيلة، رأيت إنجازك العظيم مكتوباً على أجساد الشهداء، ورأيت أكثر مما رأته آلتك العمياء، رأيت كم أنك عارٍ من الوطن وعارٌ على الوطن.
هكذ، وجدت نفسي خارج أوراق الكتب، داخل محطات الحدث، تركت نفسي لتدخل أكثر، لترى أكثر، لتعاين أكثر. اخترت ألا أكون مثقفاً ورقياً؟ بل صحافياً ميدانياً يلامس الحقيقة ويعاينها بكل حواسه. ووجدت نفسي داخل مطالب الشعب بالمملكة الدستورية والحكومة المنتخبة والبرلمان الكامل الصلاحيات والدستور المكتوب من قبل الشعب.
زفّة دم، وزفة ولاء
كان يوم الجمعة 18 فبراير، يوماً طويلاً آخر ينتظر الجميع، وفاجعاً. حوالي الساعة الواحدة والنصف ظهراً، كان تشييع جثمان الشهيد المهندس الشاب علي المؤمن (22 عاماً). سقط بقذيفة انشطارية في الفخد عند الحوض تسببت في تهتك الأوعية الدموية، لم تفلح محاولة الطبيب الاستشاري صادق عبدالله لإنقاذه، ولم يسعفه الـ 30 كيساً من الدم لاستعادة نبضه.
حوالي الخامسة والنصف من فجر الخميس الدامي، خط علي أحمد المؤمن مشاركته الأخيرة في صفحة «الفيسبوك» وقال: «دمي فداء لوطني» وقد تحولت بعد ساعات قليلة إلى واقع وحقيقة صعقت أباه وأمه وأخوته الستة، حينما تلقوا خبر استشهاده. علي يدرس في سنته الأخيرة هندسة بجامعة البحرين. كان مع أحد أخوته في ميدان اللؤلؤ مسالماً نائماً وعاد سالماً بعد أن هجمت قوات الأمن على المتظاهرين وسجل في الخامسة والنصف مشاركته الأخيرة في «الفيسبوك» (دمي فداء لوطني) ليعود للميدان مجدداً مع أخيه حسين ويستقبل جسمه الطلقات المطاطية ورصاص الشوزن المحرم دوليا، ليموت متأثراً بجراحه وحاملا آماله معه.
لم أكن أعرف عنه شيئاً، في المساء فتحت صفحته على الفيس بوك، ضوء صورته اخترق حواسي، بقيت متسمراً أمام صورته، وجدت هناك في عمقها شيئا يناديني لأكتبه. في محاولة عبثية طلبت منه إضافتي، وفي محاولة أكثر عبثاً رحت أنتظر أن يقبلني، وأعيد تنشيط الصفحة وأقول لعله فعلها، أو لعل شيئا خارقا يفعلها، كنت أريد أن أقول له: أريد أن أكتب عن ضوئك الخاص الذي شدني إليك، امنحني شيئا من سيرتك لأفتح به كتابتي.
رحت أبحث في هذه الشبكة العنكبوتية، وجدته في (YOUTUBE) حياً مفعماً بالحركة (1)، يقدم ورشة تطوعية لأهل منطقته سترة، سمعت أسئلة ورشته التي هي أسئلتي: كيف نختلف؟ كيف أختلف مع من يشاركني وطني، قريتي، عائلتي، ديني؟ تحسستُ أفق اختلافه الرحب الذي يؤمن به.
ظهر الجمعة، ذهبت جزيرة سترة لتشييع جنازة المؤمن (2).سترة المشهورة بالفقر والمقاومة والشجاعة والطيبة. شهدت الموكب المهيب الذي حمل عرس جنازته، كان علم الوطن يلف جسده الغض الطري، وكان الشبيبة المحيطين بتابوته يُلوّحون بأعلام الوطن. كانوا يتلحفون بهذا العلم، ويلوّحون به، ويقودون به، ويفتحون الميادين به، ويموتون دونه. موجعة تلك اللحظة التي توقّف فيها موكب المؤمن، ليُلبى طلب والدته المفجوعة، كان طلبها أن يُنشد له "يمة ذكريني من تمر زفة شباب.. من العرس محروم وحنتي دم المصاب شمعة شبابي من يطفوها..حنتي دمي والكفن دار التراب".
كنت أعيش هذه اللحظات، وأرسل عبر تويتر ما أنقل به هذه اللحظات، النداء الداخلي كان يشدني أكثر لهذا الشباب، وصرت أكثر يقيناً بأن الكتابة عنه واجبي الخاص.
في الأثناء، ونحن نعيش فجاعة هذه اللحظات، في اليوم نفسه الذي شهد تشييع جثامين الشهداء الأربعة الذين راحو ضحية مجزرة الخميس، والقلوب لا تزال طرية ومفتوحة على الدم، كانت هناك زفة أخرى على بعد مسافة ليست بعيدة عن الأولى. احتفال ولاء ينظمه الموالون للسلطة في جامع الفاتح. لم تنجح دعوات المعتدلين في تأجيل هذا الاحتفال محافظة على مشاعر أهالى القتلى والضحايا. أصر هؤلاء على الاحتفال فرحاً في الوقت الذي لم تبرد فيه دماء الضحايا، ولا تزال أجسادهم تشهد مواراة التراب. امتنع الكثيرون عن المشاركة، لم يكن الحضور كبيراً، معظمهم آسيويين كما كشفت لنا الفيديويات المصورة (3)، لكنه مع ذلك فجّر المشاعر السلبية عند المحتجين أكثر، نظام يقتل ويحتفي بالقتل؟!
رصاص حي..
عصراً، كنت خارجاً مع صديقي عبد الوهاب من بيتي الذي انتقلت له من سنتين الواقع في منطقة (جبلة حبشي) القريبة من منطقة السنابس غير البعيدة بدورها من دوار اللولؤة. كان يوم كسر فاتحة (4) الشهيد الأول (علي مشيمع). تحركنا متجهين إلى مقبرة جدحفص. كتبت عبر تويتر: نحن باتجاه المسيرة التي انطلقت من مقبرة جدحفص، الشارع مزدحم ولم تتبين لنا المقبرة بعد. أحدهم أخبرنا أن المسيرة تتجه نحو ميدان اللؤلؤة. تحركنا متجهين نحو الدوار، فجأة بدأنا نسمع أصوات الطلقات النارية والغازات المسيلة للدموع، اقتربنا أكثر، الوضع مربك أكثر والسيارات تعكس اتجاهها. نزل صديقي عبد الوهاب من السيارة واقترب من الشباب وقام بتصوير الجرحى، فيما كنت أقود السيارة لأنه لا يمكن إيقاف السياة في هذا الوضع المربك. أرسلت مجموعة من التويتات من هناك:
- الضربات قوية والإسعاف ينقل جرحى، كلها توجهت لمستشفى السلمانية وهي ممتلئة.
- إصابة خطيرة تقلها سيرة بيك آب.
- أمامي سيارة نائب برلماني تحركت الآن، زميل صحافي يتقدم إلى الأمام ويقول أنه رصاص حي.
- يجانبي شاب يبكي بحالة هستيرية يبدو ضُرب زميل له ضربة خطيرة.
- أقف الآن عند تقاطع إشارات منطقة النعيم، أكثر من 8 سيارات إسعاف مرت أمامي.
ما حدث، أن المعزين خرجوا في مسيرة عزاء ضمت العشرات، اتجهت نحو الدوار المحاصر بقوات الأمن والجيش، الشباب يلفون أجسادهم بعلم البحرين، يتحركون قريباً من المدرعات العسكرية وقوات الأمن، يقفون على مسافة 100 متر منها، يلوحون "سلمية سلمية". دقائق، ويعج المكان بالطلقات النارية، المشهد المصور شاهده العالم أجمع، والسقوط المفجع للضحايا أيضاً (5)، سيل من الرصاص الحي والمطاط والغازات المسيلة للدموع، اختنق المكان والناس.
انتقلنا إلى مستشفى السلمانية، الفوضى عارمة في الطريق، الشباب المشاركون في مسيرة العزاء، أخذوا في التدافع إلى مستشفى السلمانية يحملون المصابين في سياراتهم. شاهدت الشباب في الطريق إلى مستشفى السلمانية، والسيارات الخاصة تنقل الجرحى، والإسعاف. في باحة الطوارئ المكتظة بالجماهير الغاضبة (6)، شاركنا مع السلسلة البشرية التي تسهل دخول الإسعاف وعملية إنزال الجرحى عند المدخل. الناس في صراخ هستيري، العدد يكبر والصراخ والبكاء والهتافات المنددة والمطالبة بإسقاط النظام تكبر أيضاً. كتبت في تويتر: أمامي الآن الصحافي المصور مازن مهدي، في ساحة طوارئ مستشفى السلمانية يبكي بحرقة لفرط ماشاهدته كاميرته. لله أنت يامازن، ليتني في شجاعة صورة من صورك.
في الأثناء نفسها، كان ولي العهد يفاجئ الجميع بزيارة غير متوقعة لتلفزيون البحرين، يوجّه خطاباً وَجِلاً ومرتجلاً للجميع: "أقدم التعازي لكل شعب البحرين على هذه الأيام الأليمة التي نعيشها، وأريد أن أوجه رسالة للجميع للتهدئة، نحتاج فترة أن نقيم ما صار ونلم الشمل ونستعيد إنسانيتنا وحضارتنا ومستقبلنا. نحن اليوم على مفترق طريق، أبناء يخرجون وهم يعتقدون أن ليس لهم مستقبل في البلد، وآخرون يخرجون من محبة ومن حرص على مكتسبات الوطن، لكن هذا الوطن للجميع ليس لفئة على فئة، لا هو للسنة ولا هو للشيعة هو للبحرين وللبحرينيين، وفي هذه اللحظات يجب من كل إنسان مخلص أن يقول كفاية ما خسرناه في هذه الأيام، صعب استعادته، لكن أنا مقتنع بعمل المخلصين"(7).
كان هذا في التفزيون، في الوقت الذي كان الواقع خارج التلفزيون للتو أمطر رصاصاً. في السلمانية إعلان عن استدعاء جميع الأطباء إلى غرف العمليات. إصابات بلغ عددها 96 إصابة. بعضها إصابات بالرصاص الحي. 6 منها أدخلت غرفة العمليات حسب ما أعلنت مصادر طبية حينها. الأخطر كان حالة عبدالرضا بوحميد (38 عاماً)، أصيب رصاصة حية في الجمجمة، كان ميتاً سريرياً. تم أخذ أشعة له، تأكد أن الطلقة هي رصاصة حية اخترقت الجمجمة.
بقينا في مستشفى السلمانية حتى وقت متأخر من الليل، هناك تعرفنا على وفد من المراسلين البريطانيين، أريناهم بعض الصور والمشاهد الخاصة التي التقطتها كاميراتنا، ودخلنا معهم للمستشفى ورأينا معاً الأشعة الخاصة بالشهيد عبد الرضا. رأينا ذلك بأم أعيننا.كان الطبيب الذي شرح لنا الحالة زميلي في المدرسة الابتدائية، وابن قريتي، ولم نلتق منذ تخرجنا من المدرسة، لقد اجتمعنا معاً عند رأس عبدالرضا بوحميد حيث رصاصة الموت.
قائمة عار..
لم يعد ثمة مكان للحياد ولا لادعاءات الرزانة، ولم يعد ثمة مكان للجلوس خلفمنضدة كتابة لا تنزل الشارع لترى بأم عينها. إدعاء الرزانه هنا هو قد يكونبلادة مشاعر، وقد يكون سذاجة، وقد يكون سطحية، لكنه أبداً لن يكون رزانة بالمعنى الإيجابي، ولن تحتمل هذه الكلمة إلا أن تكون سلبية ومرعبة، أو كما تقول (حنة إرندت) في كتابها (في العنف): النزاهة والرزانة قد تبدوان أمرين مرعبين في مواجهة فاجعة لا يمكن احتمالها، أي حين لا تكونان ناتجتين عن السيطرة على الذات، بل تجلياً واضحاً لعدم الفهم، إن المرء، لكي يتمكن من أن يبدي رد فعل عقلاني، عليه أول الأمر ان يُستثار.
ألا يُستثار مثقف أو كاتب أو صحافي أو صاحب رأي أمام مشهد قتل أرواح، خرجت تطالب بحقوق مدنية سلمية، فهذه خيانة للإنسان. ألا يستثار هؤلاء من أجل الدفاع عن حق الناس في المطالبة بإصلاحات سياسية وحكومة منتخبة من قبل الشعب، فهذه خيانة لمبادئ الحرية والديمقراطية. لكن الأنكى، أن يستثار هؤلاء ضد مذهب المحتجين وطائفتهم، أن يسبغوا على المحتجين صفة سطحية (شيعة، متدينين) تجردهم من حقهم في الاحتجاج والرفض. إنهم بهذا يخونون وظيفتهم التي تنظر لحقوق الإنسان بصرف النظر عن معتقده ودينه، وهذا ما عنيته في بداية مقالي بخيانة المثقف.
صباح السبت 19 فبراير، وأنا ما أزال تحت سيناريو اليومين السابقين، ونا أزال تحت رعب فاجعتهما التي عايشتها عن قرب، رحت أبحث في صحافة بلدي، عن صوت ينتفض من أجل الإنسان، من أجل أرواح من سقطوا، أذهب إلى كتاب الرأي (المخضرمين) في صحافتنا المحلية واحداً واحداً، أبحث عن صوت الإنسان فيما يكتبون، أذهب إلى المثقفين الكبار، أبحث عن كلمة تشجب القتل والقمع، لا أجد.
صحيفة الوسط حملت وحدها هنا همّ نقل الحدث، نذرت نفسها له، ورفعت سقفها أقصاه في النقل، فدفعت ثمنه لاحقاً. كانت تعمل وحدها، فيما راح الإعلام في بلدي، يبرر فعل مجازر القتل، ويلتمس للحكومة أسبابها ويزيد عليها من تدليسه، ويسكب على الحكومة شرعية الفعل، وعلى الضحايا والقتلى لا شرعية الاحتجاج، ويتهمهم بالطائفية والفئوية، كون غالبية المحتجين من طائفة واحدة، وكأنهم لا يعلمون.
كنت أرى الأقلام (المخضرمة) في الصحافة، تنسف ما تبقى من إنسانيتها، وتخيط ما ترقع به (هرمها) الذي استقر في ثوب الطاعة والولاء. الاستقرار الذي صار يدرّ عليها رفاهية مريحة وغير مكلفة. هذه الأقلام التي لفرط ما هرمت، لم تعد تستوعب، ولا تقبل، معنى أن يثور الشباب، وأن ينتفضوا لصناعة غد مختلف، حتى وإن كانت بعض هذه الأقلام منخرطة في تنظيمات ثورية في السبيعينات.
على بريدي الالكتروني وصلتني قائمة مصورة باسم "قائمة العار"، تتضمن مجموعة من كتاب الصحف الذين أمعنوا في تخوين المحتجين وطأفنتهم ووسمهم بعملاء إيران، بالقدر الذي راحوا يمعنون في تبجيل فعل السلطة في فعل القمع.أنزلت صورة قائمة العار على صفحتي في الفيس بوك، وكتبت تحتها "رجاء كل من يقرأ اسمه في قائمة العار، من الإعلاميين الذين كانوا أصدقائي يعتبرون أسماءهم وشخصايتهم ساقطة من قائمتي التي لا أريد أن أحتفظ فيها بمن يقتلون بكلماتهم شعبي الذي لا يريد غير مواطنته الدستورية".
القائمة صممت على طريقة قائمة العار المصرية التي نفذها شباب ثورة25يناير، ليدينوا بها صحافة العار التي كانت تمجد نظام مبارك حتى آخر يوم له، قبل أن تدينه في اليوم التالي لسقوطه. كانت القائمة اقتباس ضمن سياق عدة اقتباسات أخذها شباب الثورة هنا من شباب الثورة هناك.
وفي الحقيقة، لم أكن لحظتها أستحضر قائمة العار المصرية فقط، بل أستحضر صرخة المخرج الأمريكي (مايكل مور) في حفل تسلمه جائزة الأوسكار، صرخته التي وجهها لجورج بوش "عار عليك سيد بوش". كان يقصد عار عليك سيد بوش الحرب الوهمية في العراق التي أدخلت العالم فيها. كنت أرى هؤلاء الصحفيين والإعلاميين والكتاب يسهمون في صناعة هذا الوهم للحرب التي شنتها الحكومة ضد المتظاهرين، وسيبان عارهم أكبر مع دخول القوات السعودية واستباحتهم لدوار اللؤلؤة وقرى المتظاهرين في 16مارس، وستكون الحاجة لصناعة الوهم أكبر كلما أمعنت هذه القوات في بطشها غير الإنساني. سيكون هناك جيش من الإعلاميين الذين لم يدخلوا هذه القائمة لحظة وضعتها في جدار صفحتي. وسيوظف هؤلاء آليات الكذب والاختلاق والتقطيع والتبرير والتزوير، لخلق أكبر خطاب كراهية.
ستكون هذه القائمة، التي سينسبها لي هؤلاء، رغم توضيحي على صفحتي في الفيس بوك نفسها، أنها وصلتني بالبريد الإلكتروني، وأنني لست من نفذها، إلا أنهم سيجعلون منها تهمة تجتر نفسها، وسينفخون فيها، في محاولاتهم لإدانتي كمثقف، لأني أعلنت عن رفضي لأقلام، تشارك السلطة في قتل الشعب وتخوينه وتعذيبه وتجويعه وتشطيره وتقسيمه وتحريض بعضه على بعض وتهييج بعضه على بعض.
فتح الورد
ظهر السبت 18 فبراير، كان ينتظرنا حدث آخر، لكن هذه المرة بطعم مختلف. خرجت مع صديقي ورفيق الميدان عبد الوهاب العريض، مررنا على المراسلين البريطانيين الذين تعرفناهم الليلة السابقة في مستشفى السلمانية، أخذناهم من فندق الدبلومات حيث يقيمون، توجهنا جميعاً نحو المستشفى. كان الوقت قبل الثانية ظهراً، علمنا في الطريق أن مجموعات من الشباب خرجت متوجهة لفك حصار الميدان (دوار اللؤلؤة)، بدلنا وجهتنا إلى هناك. قال لنا صديقنا المراسل بحسه الصحفي: الحدث سيكون هناك.
قريباً من الميدان، سنرى المتجمهرين يزحفون نحو السياج الشائك الذي نصبته قوات مكافحة الشغب على بعد نحو نصف كيلومتر من الدوار من جهة منطقة السنابس. مواجهات من قبل الأمن عبر الغازات المسيلة للدموع، لكن تحاشي الإصابات والطلقات المطاطية التي شهدناها خلال الأيام السابقة .
ابراهيم شريف أمين عام جمعية وعد ابراهيم شريف، الذي يقضي اليوم عقوبة السجن لمدة خمس سنوات، لاتهامه ضمن 21 آخرين بمحاولة (قلب نظام الحكم)، كان أول من وصل من القيادات السياسية لدعم الشباب، يقف مع الشباب ملاصقاً حاجز الخطر، قبل أن يتجه لرجال الأمن ويطلب من قائدهم السماح للشباب العزل بالاعتصام السلمي، ويخبرهم ألا أحد هنا ينوي إثارة أي نوع من أنواع الشغب. الأمن يبدي تجاوباً فيما يبدو أنه مقدمة لانسحاب ينتظر أمر التفيذ.
الشباب من ناحيتهم، يبدأون مناورات طريفة، تبدو كمغازلة لرجال الأمن. أعلام البحرين تلف أجسادهم الغضة، يجلس البعض على الأرض رافعاً علمه، البعض يتقدم نحو السياج الشائك رافعاً الورود، يلاصق السياج الشائك، يمرر لرجال الأمن الورود من خلال الفتحات الصغيرة. صبية أخرى تجتاز السياج الشائك بجسدها الضئيل، تتجه نحو رجال الأمن، تتقدمها ورودها التي تهديها لرجال الأمن.
كنا نرى أغصان الورود مرتفعة، شاهقة. كل وردة ترتفع، كانت تمرر رسالة سلام أكثر، وترخي شوك السياج أكثر، وتهتك رهبة الآليات الغليظة أكثر، وتكسر عيون العساكر أكثر. كنا نشهد اللحظات بدهشة بليغة، وبنشوة من يشهد فتح جديد، إنه فتح الورد، فتحٌ يُخجل فتح الغزو ويهزمه. كان الطقس رائعاً، يزيد المشهد روعة أخرى.
كنت أبثّ هذه اللحظات عبر تويتر. وعبره أيضاً، علمنا أن تلفزيون البحرين يعرض خطاباً لولي العهد، يأمر بسحب جميع القوات العسكرية من شوارع البحرين بأثر فوري تمهيداً لإعلان الحداد على أرواح الضحايا، ثم البدء في الحوار. سريعاً ما بدأت الآليات العسكرية وقوات الأمن بالانسحاب. يُعلَن بيان الجيش رقم 2: " انسحاب القوات العسكرية من العاصمة ".
هانحن الآن نشهد البدء في انسحاب رجال الأمن، كنا فيما يُشبه الحلم، تنسحب آليات الجيش وسط تصفيق الجميع وصرخات فرحهم وقفزاتهم وصلواتهم. أرسلت عبر تويتر لأصدقائي مفتخراً "فتحنا الدوار". كنت أجدني مشاركاً في هذا الحدث، في حدث فتح الدوار، في كسر حصاره، تسابقنا جرياً نحو الدوار، من يصل أولاً، غير مصدقين. كان الدوار قد تحول فعلاً إلى أيقونة الثورة، سمِّه ميدان التحرير، أو سمِّه ميدان الشهداء، أو لؤلؤة الثورة، لا فرق، كل الأسماء صارت أسماءه.
الشباب يضعون خطواتهم الأولى داخل الدوار بين صارخ فرحاً، وساجد على الأرض، ومتقافز من شدة الفرح، ومحتضن لرفيقه، الأهازيج، الهتافات، الصلوات، التكبيرات، كانت لحظات لا تشبهها غير لحظات النصر.
من فورهم قام الشباب بحملة تنظيف للميدان، لملة آثار الهجوم التي باغتت النيام قبل يومين: المئات من الطلقات المطاطية، المئات من أسطوانات الغازات المسيلة للدموع، أحذية أطفال هنا وهناك، ألعاب، دمى. جُمعت كلها في معارض صغيرة انتشرت في مساحات الدوار. البعض راح يرسم على الأرض لوحة بالحجارة تقول: " نحب البحرين ونطالب بمصلحة كل شعبها".
لم تمض دقائق حتى كان الميدان مسرح فرحة عارمة لآلاف المتجمهرين الذين اتخذوا من خطاب ولي العهد ضماناً يكفل لهم حرية التجمع السلمي. هو التجمع نفسه الذي سيحاسبون عليه، فيما بعد دخول قوات درع الجزيرة في 16مارس. كل من وطأت قدماه الدوار سيكون متهماً بالخيانة والعمالة والصفوية والمجوسية وما لا يقال من الأوصاف، وسيواجه أشكالا مختلفة من التحقيق أو التوقيف عن العمل أو الفصل أو الاعتقال والتعذيب، أو جميعها.
في المساء، سيأتي الامين العام لجمعية الوفاق، يصعد منصة الدوار، يخطب في عشرات الآلاف التي احتشدت في الميدان. أُرسل عبر تويتر المقطع الأهم في خطابه: نحن لا نريد دولة إسلامية، ولا دولة دينية، نريد دولة مدنية متحضرة.
ستكون الدولة المدنية أيقونة أخرى للثورة البحرينية وحلمها اللؤلؤي. تلك التي سيصمُّ النظام أذنه عن سماعها متعمداً، وسيصر على رسم أيقونة يُسمِّم بها الثورة، سينسبها إلى دولة ولاية الفقيه، تلك الدولة التي رفضها شباب الثورة أنفسهم، والتي عبروا عنها بقولهم: لم يرفضوا حكماً استبدادياً للوقوع في حكم استبدادي آخر، والتي قالت جمعية الوفاق (الإسلامية الشيعية)، باستحالة قيامها في البحرين.
لولؤة الميدان
بقينا هناك حتى ساعات متأخرة من الليل، كنت أنتقل بين الميدان ومجمع الدانة القريب منه، وأحيانا مقاهي المنامة التي صارت هي الأخرى مكاناً يضج بالنقاشات، أجلس في المقهى لأكتب. هناك بدأت كتابة مقالي عن الشهيد علي المؤمن الذي أسميته "لؤلؤة الميدان"، كان مما قلت له منشرحاً بأحداث اليوم: هل تعرف يا علي أننا هذا المساء في اليوم الثالث من زهرتك لم نكسر فاتحتك بل كسرنا طوق الميدان، وهناك في المكان الذي اغتالتك فيه جيوش الغدر، قرأنا لروحك الفاتحة، لتكون فاتحة عودتنا للميدان. بك يا علي وسّعنا ميدان اللؤلؤة، صار أكبر من ذلك المساء الذي وقفت فيه عارياً تحميه من غدر السلطة. لقد وسعناه بدمك الحر، صار غالياً وثمنه ليس دمك فقط بل حلمك أيضا، ألم تكن تحلم في ذلك الفجر الغادر أن شمسا جديدة ستشرق على هذا الميدان، ألم تكن تتطلع إلى أفق يأتي لنا بمستقبل جديد، لقد فاجأك رصاص العسكر، اغتالتك أرتالهم، لكن اطمئن لم يغتالوا حلمك بميدان الحرية، بقيت اللؤلؤة في قلوبنا، نحنو عليها من آلات العسكر، لقد زرعوا في قلبك رصاصة لكنها لم تصل للؤلؤة التي كنت تخبئها، ولم يكونوا يدركون أنك ستغدو بكلك لؤلؤة للميدان.
نحن في الليلة الأولى الآن من عودتنا للميدان الذي لم تغادره أنت، عدنا لك، وعدنا بك. عدنا لك لأنك صرت جوهرة الميدان، وعدنا بك لأنك تلاحقنا في أحلامنا، تدفعنا نحو الميدان، باؤك قوتنا الدافعة، في كل شاب وجدتك، لقد اشتقوا من اسمك أيها المؤمن إيمانهم بأنهم سيعودون. الكبار لم يكونوا يمؤمنون، لقد زرعت أنت ورفقاؤك فيهم هذا الإيمان، فأعدتهم إلى دين الحرية.
انهيت المقال في اليوم التالي، نُشر في صحيفة النهار اللبنانية التي خصصت ملحقاً ثقافياً خاصاً بالحدث البحريني، اهتمت أن يشارك فيه مثقفون بحرينيون. المقال تلقفه عدد من أصدقاء علي المؤمن وزملاؤه في جامعة البحرين، قاموا بطباعته في كتيب أنيق، ثم توزيعه في الدوار ضمن مسيرة الشباب الجامعيين، وقد تحولت هذه المسيرة لاحقاً إلى إدانة، يجرم من شارك فيها من الطلبة الجامعيين، وفُصل كثير منهم بتهمة المشاركة في هذه المسيرة.
بعد أيام يتصل بي صوت لا أعرفه، لكنه سرعان ما يفقدني القدرة على الكلام حين أعرفه، يخبرني أنه والد علي المؤمن، دخلت في نوبة بكاء، لم أبكها حين كنت أكتب شهادته. بعد يومين، استطعت أن أكتب هذا في الفيس بوك: باغتني صوته وفقدت كل قدراتي في السيطرة والكلام. كان يشكرني لأني كتبت بحبري شهادة ابنه، أردت أن أشكره لأنه قدم ابناً كتب الوطن بدمه، لكني فقدت القدرة حتى على الشكر، ولا أملك الجرأة على إعادة الاتصال به، لأني كلما فكرت في نبرات صوته فقدت صوتي، منذ يومين وأنا أحاول الاتصال به.
سألتقي أيضاً بأخ الشهيد علي المؤمن بعد قرابة شهر من هذا اليوم، أي بعد إقرار قانون السلامة الوطنية، وبدء قوات درع الجزيرة مهمتها في وأد الشعب. سيكون ذلك خلال موكب تشييع شهيد سترة الثالث عيسى آل رضي في 16 مارس، يناديني بصوت يفتر عن ابتسامة مخلوطة بالحزن، يعرفني بنفسه: أنا الأخ الأكبر للشهيد علي المؤمن، كنت أبحث عنك لأوصل لك امتناني. أنكسر أكثر. أكتب حول هذا الموقف: يرتج عليك الموقف فتداري وجهك المشحون بالبكاء، وتولي حاملاً حزنك دون كلمة استئذان تليق بالاحتفاء، لست أدري كيف لقلبي أن يغالب انكساراته عن دكة القتلي في مشرحة الموت، حيث الأجساد الغضة تحمل شهادة الفتك، ولا يستطيع هذا القلب أم يجمد حين تخترقه كلمة تأتي من جهة أب أو أخ يقول لك: أنا أبو الشهيد أنا، أخو الشهيد.
مختبر الميدان
سيكون يوم 19 فبراير، بداية فترة هدوء تمتد أسابيع ثلاثة، قبل أن يواجهها النظام بقمع هستيري في منتصف شهر مارس. وستكون هذه الفترة وما بعدها مختبراً حقيقياً للجميع: مختبراً ميدانياً للقوى المعارضة (جماعات وجمعيات وأفراد) تختبر فيه اختلافها وترسم ملامح تعايشها المشترك، ومختبراً لشكل الدولة (مدنية، دينية، ملكية دستورية، جمهورية..) التي تتطلع إليها الجماهير المطالبة بالتغيير، ومختبراً لرد فعل المجتمع الذي يشهد التغيير كواقع قادم وملح، ومختبراً للجمعيات والمؤسسات الأهلية في تعاطيها مع الثورة والحدث والسلطة والشعب والإنسان، ومختبراً للسلطة في جدية ما تُخبر عنه بسيادة شعبها، وأخيراً مختبر للمثقف في حقيقة مواقفه إزاء حريات الشعوب والعلاقة مع السلطة.
ملامح الدولة المدنية صارت تطرح نفسها بعدة أشكال داخل هذا المكان. نخلات الدوار الواحدة والعشرين، تحولت إلى علامات تنوع، بقدر ما هي علامات أصالة، وبقدر ما هي علامات شموخ. سريعاً ما تم ترقيم النخلات لتصير كل نخلة مقراً لكيان مختلف، خيمة عند كل نخلة، بل خيم على امتداد المساحة المحيطة بالدوار، لهذا صار الدوار أكبر، صار ميداناً حقيقياً. تكدست الخيم، تلاصق بعضها بحب بعض، الناس كذلك.
كل من لديه مطلب احتجاجي سيجد له متسع في هذا الميدان، لا أحد يسأل أحد عن انتمائه وأصله أو فصله أو دينه أو مذهبه. الميدان هو المساحة الحرة لممارسة فعل الاحتجاج الحر. لهذا جاء بعضها غاية في التعقل وجاء بعضها غاية في التطرف وكان بينهما كثير. لا أحد يتحكم في الميدان ولا الناس، لا سيد غير علم البحرين الذي كنا نراه للمرة الأولى بهذا التألق يرفرف رفعياً كبيراً مفتخراً. كلما ابتعدت الخيمات عن مركز الدوار ومنص