عاجل الحد: إلى مريضه مضى المسعف النبيل
2011-07-06 - 11:11 ص
مرآة البحرين (خاص):
إنها العاشرة من صباح الثالث عشر من مارس الفائت، تسلّم (ع.ع) العامل ضمن طاقم مسعفي طوارئ مجمّع السلمانية الطبّي أمراً من رئيسه، اتصال ورد للتو للقسم يطلب حضور الإسعاف إلى رجل مسن، والمكان هو منطقة "الحد".
يبدو الأمر روتينياً جداً لموظف يقضي يوم عمله في نقل المرضى من وإلى منازلهم وتقديم خدماته الطبيّة لهم، إلاّ أن "اللاروتيني" في الأمر، هو الوصول والدخول إلى "الحد"، ثم الخروج منها.
يعرف (ع.ع) أن الطريق للوصول إلى منزل المريض بمعية زميله مغامرة محفوفة بالمخاطر، فالمداخل التي تؤدّي إلى جزيرة المحرّق مغلقة بـ "ملثمين" يحملون أسلحة بيضاء وعصي، يسألون عن هويّة "المارّين" بمركباتهم وسيّاراتهم، وثمّة أخبار يتداولها الناس عن شروع أولئك الملثمين بضرب المارّة وإيذائهم لمجرّد انتمائهم الديني، كما ثمّة نقمة خاصّة يحملها أولئك الملثّمون ضدّ "سيارات الإسعاف" التي برزت في شاشات التلفزة والإنترنت وهي تنقل مصابي الاحتجاجات الشعبية، فأولئك الملثمون مزيج من رجال أمن بملابس مدنية، وجماعات شبابية دينية تمّ تجييشها طائفياً ضدّ المعارضة وأنصارها، وضدّ الكوادر الطبيّة التي اعتبرها "الإعلام الحكومي" جزء من مؤامرة تستهدف الإطاحة بالنظام وتكوين جمهورية "شيعية" تستهدف وجود "السنّة" في البحرين، وما تلك السيارات الطبية سوى جزء من تلك المؤامرة التي نجحت في احتلال مجمع السلمانية الطبي.
يحتاج (ع.ع) إلى جرعة كبيرة من الشجاعة ليقول نعم لـ "أمر" رئيسه، سيما وزملاؤه يتداولون قصص تعرضهم لإيذاءات نفسية وجسدية من أولئك الملثّمين الذين ينتشرون في مداخل عدّة مناطق من البحرين.
"هل سيكون أقسى من الوقوف أمام الرصاص؟!!" ردّ على استفهام زميله الذي مازحه بالقول "ماذا سنفعل؟!" .. ليس ثمّة خيار آخر في ميزان المهنة التي أخلص لها أولئك المسعفون، "وهل نحتاج للتفكير؟!!" أضاف بممازحة يعني بها ما يقول، فلا مناص من أداء الواجب والالتزام بقسم المهنة، حتى في أحلك الظروف، ولتبدأ الرحلة المزمع انتهاؤها بعد أقل من ساعة، إلاّ أنها استغرقت أكثر من ساعتين.
لم يكن دافع مغامرتهما "الأمر" الذي تلقاه المسعفان من رئيسهما، ففي طريقهما استذكرا "التطنيش" الذي دُوّن في سجلهما قبل أسابيع تجاه أوامر الوزارة، كانت الأوامر حينها تتوخى "ظاهرياً" سلامتهما الشخصية وسلامة سيارتهما من حملة "التطهير" التي شرعت قوّات الأمن في تنفيذها ضدّ المتظاهرين في دوار اللؤلؤة، إلاّ أنهما كان معاً في قلب المعركة، ولم يخرجاّ إلاّ بعد أن تعرضّا للضرب والإهانات، والتهديد بتفريغ "الشوزن" في صدر (ع.ع).
سيقطع حوارهما الآن دراجة نارية تحاول اللحاق بهما في منتصف جسر الشيخ خليفة بن سلمان الذي يربط ميناء خليفة بشرق المحرّق، يحاول السائق تجاهل طلب سائق الدراجة الملثّم بالوقوف، وليجد نفسه أمام نقطة تفتيش أقامها ملثمون نهاية الجسر، وليُستقبل فور توقفه بإنزاله قسراً من السيّارة وبسيل من الشتائم ومحاولة الاعتداء.
"ذاهبٌ إلى رجل كبير في السن ومريض" صرخ السائق وسط كومة المكتظّين حوله بالعصي والسكاكين، ثمّة من في الجمع يمارس دور التهدئة، وليبدأ التحقيق معه ومع وزميله (ع.ع)، .ومع كل سؤال سيلٌ من الشتائم والإهانات والبصق في الوجه.
احتاج المسعف ومساعده إلى وقت طويل لإقناع المكلّفين ظاهراً بحراسة مناطق أهل السنة بأنهم لا يحملون أيّة نوايا عدوانية تجاه قاطني تلك المناطق، وأنّ حضورهم لأداء مهمّة رسمية لاصطحاب مريض طاعن في السنّ، ولإثبات أنّهم مهنيون ومواطنون صالحون، كان عليّهم التبرؤ من أفعال قادة المعارضة وحراكها والسكوت على كل الشتائم والإهانات التي كالها الملثّمون لهما ولقادة المعارضة ورموزها.
اجتاز المسعفان نقطة التفتيش التي أقامها "الملثمون" بعد 20 دقيقة من التحقيق والإهانات، سيكون الوصول سريعاً الآن إلى منزل المريض الذي لا يبعد عن نقطة التفتيش سوى بضعة كيلومترات، إلاّ أن تلك الأمنية بدت بعيدة المنال، فثمّة نقطة تفتيش ثانية، وثالثة، ورابعة، وفي كل نقطة تفتيش يتكرّر ذات السيناريو، سين وجيم وسيل من التهديد والوعيد والبصق في الوجه.
بعد أكثر من ساعة في رحلة تستغرق في العادة ربعها، وصل المسعفان إلى منزل "المريض"، شرعا في أداء واجبهما المهني تجاه المريض، وأوصلاه إلى طوارئ السلمانية بعد أن مرّا بمعيته بثلاث نقاط أمنية أخرى يتجمّع فيها الملثمون، وبذات السيناريوهات بشتائم وإهانات أقل.
انتهت المهمّة بسلام.ثمّة شعور داخلي بالراحة النفسية يشعر بها (ع.ع) بعد إنهاء كلّ رحلة رغم الألم الذي يعتمل فيه وهو يسمع تأوهات مرضاه وشكواهم، فالجهود التي يبذلها وعبارات التضميد والتسكين التي يمزجها بانهماكه في تضميد جراحات مرضاه وتسكين آلامهم، يتذكرها بعد حين، مكافأةً لنفسه وتحفيزاً لها لمزيد من البذل، إلاّ أن "الألم" الذي سيعتور (ع.ع) بعد ساعات من إنهاء "رحلة الحد" سيكون مختلفاً، حيث يقرأ في هاتفه النقال مسجاً استلمه بواسطة "البلاك بيري" مفاده "سيارة الإسعاف تتأخر عمداً في إنقاذ رجل كبير في السنّ من أهل السنّة والجماعة في منطقة الحدّ"، يليها مسج آخر "تدهور حالة رجل كبير في السنّ بسبب تأخر متعمّد من قبل سيّارة الإسعاف في إنقاذه"، ومسج ثالث ورابع وأكثر جلّها تتداول تفاصيل ما أنزل الله بها من سلطان حول "تعمّد رجال الإسعاف الشيعة في التأخر عن إنقاذ مريض من أهل السنّة".
تتفجّر الأسئلة في ذهن (ع.ع) حول تلك التفاصيل المفتعلة والمتداولة في الـ "بي بي" ووسائط إلكترونية أخرى، إلاّ أن ما يخفّف من وطأتها الحيلة النفسية التي لجأ إليها بالتقليل من أهميتها، "لن يصّدقها أحد" قال مخاطباً نفسه، فما أكثر الشائعات والأقاصيص الوهمية والمختلقة في الـ "بي بي" ومواقع التواصل الاجتماعي الإلكترونية، إلاّ أن (ع.ع) لم يدر في خلده أبداً أن تلك الروايات والقصص سيصوغ منها "الإعلام الحكومي" روايته الرسمية للعالم حول ما أسماه فيما بعد "تطهير مجمّع السلمانية الطبّي" من المحتّلين والخونة، وأنه سيصبح جزءاً من أولئك المجرمين الذين أشارت لهم القائم بأعمال وزير الصحّة فاطمة البلوشي في مؤتمرها الصحافي الذي عقد في الثاني من مايو الماضي بأنهم قاموا بـ "منع وصول الرعاية الطبية والخدمات الصحية للمواطنين والمقيمين بشكل طائفي ، مما عرض المرضى للخطر وشكل تهديدا واضحا وكبيرا على حياة الكثيرين منهم".
التقى (ع.ع) بزوجته في السادس من يونيو الجاري للمرّة الأولى بعد أن ودّعها في الثاني من أبريل الماضي، وكان اللقاء في قاعة محكمة السلامة الوطنية في الرفاع بعد أن تم إحضاره بمعيّة 19 مسعف آخرين، وطوال فترة الشهرين لم تسمع زوجته صوته ولم تعرف عنه أي شيء، سوى أنه ذهب للعمل ولم يرجع.
وفي قاعة المحكمة، وقف (ع.ع) للاستماع إلى التهمة الموّجهة إليه وزملاءه، والمتمثلة في " إذاعة عمداً أخبار وبيانات كاذبة ومغرضة بشأن عدد من المصابين والتجمهر".
لم يلتقِ (ع.ع) بأي محامٍ قبل مثوله أمام المحكمة، كما أن زوجته لم تعرف بمحاكمته إلاّ قبل يوم واحد من موعدها، حين تلقّت اتصالاً من الأمن يطلب حضورها في اليوم التالي إلى قاعة المحكمة، وبعد انتهاء الجلسة الأولى سُمح لها بتوكيل أحد المحامين للدفاع عنه.
لم يتسنّ لزوجة (ع.ع) الوقوف على تفاصيل وحيثيات اقتياد زوجها والتحقيق معه خلال عشر دقائق من اللقاء معه، حيث اكتفى الأخير بالقول "ما لقيته كان مهولاً، ولا يمكن أن أصفه"، وأضاف "قبل إحضارنا إلى قاعة المحكمة تلقيّنا وجبة ضرب وإهانات دسمة، ونحن على موعد بوجبة أخرى بعد الجلسة إذا تحدّث أحدنا بغير المسموح به أمام القاضي".
اقرأ أيضا
- 2013-01-28نبيل تمام والخروج على تجربة العتمة: أيها الصندوق.. لستَ آخر معاركي
- 2012-12-27باسم ضيف: كان النداء الأكثر ألماً من السجن، لماذا تركت غسان وحيدا!! «4-4»
- 2012-12-22والد باسم ضيف داخل قاعة المحكمة: العالم كله معكم يا ولدي فلا تبتئسوا «3-4»
- 2012-12-19باسم ضيف متحدثاً عن تجربة السجن: مجمع عنبر 5 الطبي «2-4»
- 2012-12-16باسم ضيف: داخل القَسَم الطبي حتى آخر قطرة سجن «1-4»