» رأي
هذا الشعب لا يموت، ولا ينكسر
عادل مرزوق - 2011-06-11 - 6:50 ص
عادل مرزوق*
تعلمت من السنوات العشر الأخيرة أن أكثر التكتيكات السياسية رواجاً عند السلطة هو تكتيك اللعب على الوقت، تكتيك تقليدي يقوم على تمييع القضايا والملفات العالقة في اختبار الوقت، والتأجيل، والدعوة للحوار والتوافق الذي لا يقوم على آليات أو أهداف محددة. وعديدة هي الملفات التي شهدتها البحرين خلال السنوات العشر الماضية التي أختبر النظام فيها فاعلية هذا التكتيك، واستطاع مع مرور الوقت النفاذ من أزماته وملفاته بنجاح.
اليوم، تجلس السلطة في البحرين على هشيم بلد يحترق، العقد الاجتماعي الذي أسسه ميثاق العمل الوطني أوائل المشروع الإصلاحي الذي صدقناه مخطئين، أصبح ذكرى مؤلمة في ذاكرة أبناء الشعب، اصبح ذكرى للخديعة التي انتهت فصولها مع اطلاق الجيش وقوات الأمن رصاصاتهم تجاه المواطنين العزل. تجلس السلطة على هشيم بلد ينهار اقتصاده بأسرع مما كان يعتقد البعض، تراقب هذا المجتمع الذي يقترب من الاقتتال الطائفي. ونضيف لذلك، سمعة دولية ملطخة بالعار، وتقارير دولية متتالية من كبريات الصحف والقنوات الإعلامية الدولية بالصوت والصورة تؤكد أن لا فرق اليوم بين هذا النظام وبين أي نظام ديكتاتوري آخر في العالم الثالث. وخلاف كل ذلك، لا شك أن الضغط الأمريكي والبريطاني بدأ يزداد في اتجاه إغلاق ملف البحرين عبر تسوية شاملة ونهائية، وإيقاف مسلسل الانتهاكات اليومي لحقوق الإنسان في البحرين الذي بات قلقاً يومياً للصحافتين الأمريكية والبريطانية على حد سواء.
وقبالة هذا الوضع المعقد، اعتمد الإعلان الأخير عن الحوار من جانب الملك تكتيك اللعب على الوقت، اعلن عن الحوار الذي سيبدأ مع الأول من يوليو ليتيح لوسائل الإعلام الدولية الاستماع لصدى الترحيب بالحوار والتطبيل اليومي للحوار، الجهاز الإعلامي للسلطة والجمعيات السياسية المفبركة ومؤسسات المجتمع المدني "الجونجو" التي اسستها الدولة، كلها كانت جاهزة في الموعد لترمي ورقة ورسالة للعالم مفادها أن الأزمة قد انتهت، وأن الجميع يستعد للحوار!. وكذلك انزلقت بعض الجمعيات السياسية من التيار الوطني – للأسف - والتي أعلنت الترحيب بالحوار دون أن تكلف نفسها عناء طلب توفير أبسط مقتضيات أجواء بدء الحوار الإيجابية، ومنها طلب الإفراج عن قائمة عريضة من شركاء الحوار الذين لا يزالون في السجون. وقبالة هذه الاستعدادات كلها، كان الشارع البحريني مستعداً أيضاً للإعلان وبوضوح ومن جديد، أن لا مزيد من الضحك على الذقون، وأن لا مزيد من التصديق للوعود والدعوات الزائفة، وأن الحوار الذي يريده الشعب هو ذلك الحوار الذي يمهد لملكية دستورية حقيقية يشارك في صياغتها أبناء البحرين كافة، وفي مقدمتهم أولئك الغائبين عن الأعين ممن تحتجزهم السلطة اليوم خلف القضبان لتمارس في حقهم أقسى وأبشع أنواع التعذيب والانتهاكات لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية. إذن الوقت غير الوقت، واللعب على الكلاسيكيات السياسية لم يعد يجدي، وهذا العالم المفتوح لم يعد يسمح بأن يتصدر (الهراء) عناوين الأخبار، فالإصلاح هو الإصلاح، والديمقراطية هي الديمقراطية، والانتخابات هي الانتخابات.
أرادت السلطة اللعب على الوقت، أرادت أن ترهق أنفاس المعارضة وأن تستنفذ قواها يوماً بعد يوم لتأتيها راكعة ذات يوم بسقف تسوية لا يزيد عن الإفراج عن المعتقلين وإعادة المفصولين لأعمالهم. لكنها لم تدرك، ان قواعد اللعبة تغيرت، فهذا الجيل بات يملك من النضج ما يؤهله لتجاوز مثل هذه الألاعيب المفضوحة.
تؤمن السلطة أن هذا التكتيك الذي نجح دائما سينجح هذه المرة أيضا. لكنها تغفل عن التنبه إلى أن ما اقترفته الآلة العسكرية وعصابات الليل من قوى الأمن هو أعمق وأقسى من أن يمر من ذاكرة الناس أو أن يتجاوزه مع مرور الوقت. وأن صرخات الفقد والألم وأوجاع الإهانات وأنفاس الخوف التي عاشها الناس باتت راسخة في ذاكرتهم. وأن صور جثامين الضحايا وما حملته من آثار التعذيب والتنكيل هي أقوى من مرور الثواني والساعات والأيام بل والسنوات أيضاً. وعليه، لقد جازفت الدولة بهذا الخيار كما جازفت بخيار العسكر الذي ارسلته لقمع المتظاهرين والتنكيل بهم. وليست الخسارات المتراكمة من سمعة السلطة ومكانتها واقتصادها إلا شواهد هذا التخبط في إدارة الأزمة حين ازاح المتشددون ولي العهد من المشهد، ليرتقي سفاكو الدماء خشبة المسرح لينشدوا نشيدهم النشاز على أنغام مسير المجنزرات والدبابات وبغطاء خليجي مشلول.
لم يعد لدى هذا الشعب ما يخسره، وإن كان لعب السلطة على الوقت يرهق الشارع، فهو أيضاً يرهق الدولة التي باتت صورتها الدولية في مؤخرة الدول ديمقراطية وحرية. ولن تكون للمساعدات المالية التي تعهدت دول الخليج الوفاء بها للبحرين قادرة على تعديل موازين الخلل، فضلاً انها مساعدات تمعن في سلب سيادة الأسرة الحاكمة على أراضيها، فللدائن حق فيما يدير المديون، وليس للدولة – اي دولة – ان ترهن تنميتها ومستقبلها ومصيرها ومصير شعبها لمساعدات تنتهك سيادتها وسلطتها على أرضها. وخلاف كل ذلك، يلعب عامل الوقت دوره في زيادة الضغوط الدولية من جانب الدول الغربية التي قد تتحول مع الوقت لفرض خيارات اصلاحية أكثر قسوة على النظام، ومسرح التوقعات هنا مفتوح للجميع، وقد يشمل إعادة توزيع مراكز القوة في الأسرة الحاكمة.
يبقى أن الحلول الحقيقية المتوافرة أمام السلطة للبدء في الحوار وطي صفحة الوجع التي عصفت بالبحرين منذ الرابع عشر من فبراير حتى اليوم ماثلة أمامها، وهي تتخطى الإشكاليات التي تتعمد السلطة التركيز عليها وتكراراها. وتكمن هذه الحلول في تهيئة الأجواء لعقد مصالحة وطنية تستطيع الانتقال بالبلاد لملكية دستورية حقيقية تبقي العائلة الحاكمة على رأس السلطة وتضمن للشعب نظاماً ديمقراطياً تمثيلياً حقيقياً، ومن أهم ملامح هذه الأجواء الإيجابية الإفراج – دون عنونة الإفراجات بخطابات العفو – الفوري عن جميع المعتقلين منذ بداية الأحداث، واعادة جميع الموقوفين والمفصولين من أعمالهم لأعمالهم وتعويضهم عن شتى الأضرار التي لحقت بهم، وتشكيل لجنة حكومية لرعاية وكفالة زوجات وأسر وأبناء الضحايا جميعاً سواء من المتظاهرين أو رجال الأمن، والسماح للجميع بممارسة حقوقهم في التظاهر السلمي، وتقديم جميع المسؤولين عن الانتهاكات الأخيرة للتحقيق والمحاكمة في فضاء عادل وبإشراف دولي (فلا ثقة بعد اليوم في القضاء البحريني) وتحت إشراف دولي.
وخلاف ذلك، للدولة ان تراهن على الوقت، لترى من يتعب أخيراً. ودروس التاريخ علمتنا بوضوح، تتعب الشعوب وتتألم، لكنها لا تموت، ولا تنكسر.
*كاتب بحريني